لا عجب أن تذخر الجزيرة السورية ووادي الفرات بشتى ما يميزهما ويُحيلهما إلى ذاك العمق التاريخي الذي تنتميان إليه.. من عاداتٍ إلى خيراتٍ، إلى نتاجٍ فنيٍ يعبِّرُ خيرَ تعبيرٍ عن تجذر الإنسان فيهنَّ وقِدَمِ وجوده، فالتاريخُ يعرُّف الفنَّ بأنه مرآةٌ لأي
شعبٍ من الشعوب.. وقد تمخَّضت المنطقة عن عددٍ من الأنماط الغنائية كالموليا والأبوذية والنايل والدارمي والنَّعِي..إلخ
سنحاول خلال مشوارٍ إلى جزيرتنا الحبيبة أن نضيء على نمطين من تلك الأنماط، لندرِك طبيعة الاختلاف الذي يميز واحداً عن آخر..
عن الموليه يقول الباحث محمد موسى الحومد في كتابه (شعراء الموليا في القرن العشرين) الصادر عام 2000 عن دار الغدير في سلمية: «هو نمطٌ من الشعر الشعبي المغنَّى، له مكانته الخاصة في قلوب أهل الرقة والجزيرة ووادي الفرات على
حدٍ سواء، حتى أن أحد المقاهي في الرقة كان يحمل اسم;مقهى موليه; وكان بمثابة المنتدى لشعراء وعشاق هذا اللون الغنائي.
وقد اختلف الباحثون في أصل كلمة; الموليه; ودلالاتها، ومكان وزمان ابتكارها، إلا أن المنطق البحثي لا يميل لأيٍ من تلك الروايات، نظراً لانعدام المراجع المعتمدة، لكن تعدد الروايات هذا يحيلنا إلى أن التسمية لم تُخلق بهذا الشكل، بل أتت نتيجةً
لتراكم معطيات الثقافة الشعبية.
وقد بدأ هذا النوع من الغناء مع بداية القرن التاسع عشر في بلاد الشام (سوريا
والعراق).أما من حيث الشكل والبناء فتُنظم الموليه في معظم الأحيان على البحر البسيط ومشتقاته الجوازية، وتُغنى على مقامَيّ البيات والنهوند، وتتكون من بيتٍ بأربعة أشطر، أشطره الثلاثة الأولى موحدةُ الروي، بينما يختتم الشطر الرابع بياءٍ مشددة،
وهاء مهملة، كقول الشاعر; ابراهيم عبد الحمدان السبيعاوي:
“البارحة ما نمت والعين سهرانه
على حبيب القلب، الـ راح ما جانه
الروح من فرقتو عالدوم حزنانه
يمتى يعود الولف.. يرد الهنا ليَّه؟”
وهنا يأخذنا بعض التشابه في الشكل إلى نمطٍ آخر، أراهُ أكثر جمالاً وإبداعاً من الموليه، ألا وهو; الأبوذية; التي يتفق الجميع على مكان نشأتها (جنوب العراق اليوم) وأصلِ تسميتها، وذلك حسبما ورد في كتاب; فنون الشعر الشعبي; لمؤلفه العراقي; علي الخاقاني، وكتاب الأبوذية لـ هاشم الرجبان; ومنهما نستقي: «تأتي كلمة أبو بمعنى صاحب، في المحكيَّة العراقية، وكلمة ذية; أتت تخفيفاً لكلمة أذية”. ليغدو الشكل الدقيق قبل التحوير اللفظي الشعبي أبو أذية، ومردُّ هذه التسمية إلى أن المزاج الشعبي في تلك المنطقة يميل إلى اللون الغنائي الحزين، ولهم من الموهبة المتراكمة ما يمكِّنهم من تخليد الحزن في أغانيهم، فكان غناء هذا النمط ارتجالياً وخاصاً بمن حلَّ بمصيبةٍ أو فاجعة، فيقوم بنظمِ أبوذيةٍ تحنِط حزنه وترميه إلى سموات الخلود.. لتحفَلّ فيه مجالس العزاء إن لاقى رواجاً لدى تلك القلوب التي جبلها التاريخ بماء الحزن.
إذن؛ فالحزن والشجن هما رفيقا دربِ الأبوذية، وهذا أولُ اختلافاتها الجوهرية عن الموليه، أما الاختلاف الثاني فهو في نهاية كل شطر من الأشطر الأربعة، إذ يشترط أن يجمع الجناس تلك النهايات، سواء أكان جناساً تاماً أم ناقصاً، بينما تتفق في نهاية
شطرها الرابع مع الموليه (ياءٌ مشدّدة، وهاء مهملة).
أما أبرز روادها وناظموها فكان يُعرف بـ (أبو معيشي 1866- 1978) المولود في منطقة نجد في الحجاز، لينتقل بعدها طفلاً إلى العراق وتبزع أنوار موهبته هناك، حيث عاصر أجيالاً من الشعراء والأدباء وحظي باحترامهم وتودُّدهم، ويروى عنه أنه
كان يشترط على من يطلب منه بيت أبوذية أن يكتب في بداية الصفحة (ايكول أبو معيشي) أيّْ يقول، ثم يتلو عليه البيت، وحين ينتهي التلقين والكتابة يطلب منه تلاوة ما كتب، فإن لم يستهلَّ قراءته بعبارة (ايكول أبو معيشي) كان يزعل، فيغادر المجلس
والجليس»
ومن الأبوذيات ذائعةِ الصيت والحكاية، مجهولة القائل، تلك التي تروى عن عاشقٍ لابنة جاره، حال الدهر بينهما، فرآها ذات مرةٍ تزور أهلها، ورأى ابنها خارجاً يلعب وأقرانه، فناداه وسأله عن اسمه، ليُفاجأ بأن اسمه علي على اسم الشاعر العاشق، ويُنادى تحبباً بـ (عليوي) فأنقدَه لذلك ألفيّ ليرة، وأنشد:
أظل بهمومي أطويلك وألفّلك
وأظل الدوم يا ولفي ولف لك
هاك ألف لأمك -يا عليوي- وألف لك
ثمن نسمة هواها الـ مر عليا