“بدأ رمضان وما قدرت بعد لاقي عريس لحتى يعزموني أهله على الإفطار”، تكتب أليسار، وهي فتاة ثلاثينية تعيش في العاصمة السورية دمشق على موقع فيسبوك في أول أيام شهر رمضان، وتنشغل بمتابعة تعليقات أصدقائها ومعارفها، بسخرية لا تخلو من غصّة وحزن.
ترد إحدى الصديقات “اللهم بلغنا شهر العسل كما بلغتنا شهر رمضان”، وتعلّق أخرى “أنا أجلّت هالأمنية لرأس السنة بعد ما يئست أنو تتحقق برمضان”، وتضيف ثالثة “متل كل رمضان، رح صوم وأفطر وأتسحر لوحدي”، وتتكرر الردود التي تعكس جزءاً من الواقع السوري بعد ثمانية سنوات من الحرب التي تزداد كلفتها البشرية والاقتصادية يوماً بعد آخر. ومن الأرقام التي تبين هذه الكلفة ارتفاع نسبة النساء في سوريا من 49 بالمئة قبل العام 2011 إلى حوالي 60 بالمئة، وفق آخر الإحصائيات الرسمية الصادرة عن وزارة التنمية الإدارية منذ حوالي عامين.
هذا الغياب الملحوظ للرجال عن الكثير من مفاصل المجتمع السوري اليوم، والذي جاء نتيجة وفاة وسفر وفقد مئات الآلاف منهم، يلقي بظلاله على الحياة داخل البلاد التي بات البعض يطلق عليها اسم “كوكب زمردة” أي المكان الذي تعيش فيه النساء فقط، ويغيّر بشكل قسري نمط حياة المرأة، والتي تحولت في بعض الأحيان لمعيلة لنفسها وأسرتها، واضطرت في أحيان أخرى للتخلي عن حلم تأسيس عائلة، أو ربما تأجيل هذا الحلم إلى أجل غير مسمى، وذلك لصعوبة وتعذّر تحقيقه.
ولا يقتصر الغياب في سوريا على الرجال وإنما بات يشمل معظم أفراد العائلة، واليوم يصبح وقعه أشد وطأة خلال شهر رمضان الذي يمثّل واحدة من أهم المناسبات في سوريا لأجواء اللقاءات العائلية على موائد الإفطار والسحور.
“أغلب موائد شهر رمضان هي السنة فيها أشخاص غائبين”، تقول آمنة التي تقضي ثالث عام لها على التوالي في تركيا وتضيف: “عوضاً عن أن نتباهى بالأطعمة التي نعدّها للإفطار كما اعتدنا خلال سنوات حياتنا في سوريا، أصبحنا نتسابق في عدد أعوامنا خارج بلادنا، وفي قدرتنا على التأقلم على حياة الغربة والتي تصبح أكثر قسوة خلال شهر رمضان”، تضيف السيدة الأربعينية بأسىً.
تقشف لا إرادي.. مجبر أخاك لا بطل
“صايمين مو بس لأنه رمضان، لأنه أساساً ما معنا غير حق وجبة وحدة باليوم”، تمازح أم لؤي أحد باعة التوابل في سوق باب سريجة وسط دمشق، وتطلب منه كميات قليلة جداً من بهارات الطبخ الأساسية والتي لا يخلو منها منزل سوري، كالفلفل وحب الهال والكمون والقرفة والكركم.
“لا تكتّر لا تكتّر.. بمية ليرة من كل نوع مو أكتر الله يرضى عليك”، تخاطب السيدة الخمسينية البائع العجوز، وتتأكد مرة تلو الأخرى من حملها المبلغ الكافي لشراء تلك التوابل، “مية، ميتين، خمسمية، الحمدلله في ألفين ليرة”، تقول بصوت منخفض في سرّها.
اعتادت أم لؤي التسوق لاحتياجات شهر رمضان قبيل أسبوع من بدايته، وهي عادة تغيّرت وفق حديثها عاماً بعد آخر خلال الحرب، وفقدت الكثير من بهجتها. “كنا نرتاد معظم الأسواق الشعبية أنا وابنتي وزوجات أولادي، وكان الأمر أشبه بطقس عائلي يحمل الكثير من الحميمية والألفة”، تشرح السيدة في حديثها، وتضيف بأن الحرب قلبت كل ذلك رأساً على عقب، مع وفاة زوجها وسفر ابنيها وبقائها وحيدة مع ابنتها.
وتتحسر أم لؤي على تغيّر وجه هذا الشهر والذي لم يعد يشبه ما كان عليه قبل سنوات الحرب، “مو بس العائلة صغرت، والمصاري قلّوا كمان”، تضحك مضيفة: “فما عادت لنا قدرة على إعداد موائد سخيّة كما في السابق، وحتى إن أعددناها، فمن سيشاركنا بها؟”.
ينهي البائع تعبئة التوابل في أكياس صغيرة، ويضيف شريحة من المشمش المجفف المستخدم لإعداد شراب “قمر الدين” المنعش إلى ما تحمله السيدة من أغراض في حقيبتها، وبابتسامة عريضة يطلب منها نصف السعر فقط: “هي حتى ما تقولي رمضان مو كريم، رغم كلشي انشالله بيبقى رمضان كريم ومليان بالخير على طول”.