عمر الورد
يفتح علي علبة السجائر ليأخذ منها واحدة ويشعلها كمدخّنٍ متمرّس ثمّ يخترق صمته بكلمتين ” رايح اتطوّع واخلص بقا”، لم أتفاجأ بقراره الآنيّ الذي صرّح به لتوّه، علي (18 عاماً) يعيل عائلته اليوم بعد وفاة أبيه خلال الحرب السوريّة، حيث بدأ عامه الخامس عشر بالعمل مع أخيه في بيع الألبان والأجبان، ولم يسنح له الزمن ليركّز في دراسته، حيث كان دائماً يحبّذ الذهاب للصيد خلسةً مع جاره كي ينفض عن قلبه آثار الحزن بعد موت والده من خلال صيد الحيوانات الضعيفة، يضيف: ” فكّرت ليش حتى سافر، طموح هون ماعندي ليكون عندي برّا! “.
“عمر الورد” هو تعبير لم نعد نسمعه إلّا في المناسبات الحزينة ” لقد كان في عمر الورد مثلا “، ثمّ أنّ المشاعر المختلطة تصيبني عندما أتذكر العمر الذي قضيناه خلال هذه السنين مقارنةً بآبائنا الذين قضوا شبابهم بين المسرح والسينما والجامعة التي كانوا يحدثونا عنها بأنّها أجمل أيام الشباب!.
” ماذا فعلت الحرب بك؟” سؤال طرحته على طالبة الاقتصاد ليليان (21 عاماً)، سكتتْ قليلاً ثمّ بدأت تسرد أثر تلك السنين حتى اليوم، ففي بداية الأحداث كانت طفلة تدرس في الصف التاسع لتشعر اليوم أن ” دماغها قد غُسل ” حسب تعبيرها، لكن ما يحزنها هو الخوف الخانق من أهلها وما تراه على مواقع التواصل الاجتماعيّ من فتيات في عمرها يجرّبون ويعيشون عمرهم الطبيعيّ، تقول: “بصراحة تكوّن عندي كره تجاه المجتمع لأن حرمني مراهقة طبيعيّة كنت بقدر عيشها، وقت تشوفي كلو انقلب ضدك ماعد رح تحسي بالأمان، حتى لو بمدينتي طرطوس ماصارشي بس نحنا هون تعرّضنا لشي أخطر هوي آثار هي الحرب النفسيّة والماديّة، فشو ماصار صرت بحسو عادي لأن هيك هيك الوضع سيء”.
أثر سلبيّ
بعد سماعي لقصّة أخيها تواصلت معها واتفقنا على موعد، فانتظرتها قرب الكورنيش البحريّ لمدينة طرطوس، بعد دقائق كانت تقترب بمشيتها الهادئة فتاة ثلاثينيّة، جلسنا نتحدّث، وخلال النقاش نزعت نظاراتها الطبيّة وبدأت بسردِ قصتها؛ تفضّل سلمى، خريجة علم نفس ، البقاء مطوّلاً أمام شاشة الكمبيوتر لمشاهدة الأفلام وقراءة الكتب بعد دخول أخيها لمصحٍّ لعلاج الإدمان في لبنان، تتجنّب الاختلاط المجتمعيّ بعد اكتشافها أنّ الكتاب أصبح صديقاً مقرّباً، لكن السبب الحقيقيّ أنّ صديقها جرّ أخيها لتعاطي الحبوب المهدّئة حتى كاد يموت من جرعة مفرطة حسب قولها.
تضيف سلمى: “الاكتئاب الذي أصاب أخي بعد فشله في دراسته و تواصله مع الناس؛ دفعه لتجربة هذه السعادة الوهميّة، وللأسف التوعية هنا بهذا الخصوص ضعيفة جداً سيما في الحرب، حيث تصبح على شكل ترهيب الطفل منذ الصغر دون ذكر مضارها، وعندما يغيب الرقيب خاصة في هذا الوقت سيختفي الخوف وتصبح المخدرات قابلة للتجربة”.
خطوةٌ للأمام
تكثر المشاعر الحزينة التي نتجت عن هذه الحرب، لكن في المقابل نجد بعض الشباب المصرّين على الإكمال و زرع التفاؤل في طريقهم، فحين شاهدت أيهم، عازف Blues، ينشر موسيقاه على مواقع التواصل الاجتماعيّ جذبني هذا العمل الذي يشعرك بنتاجه الشبابيّ المعاصر، وفي أوّل لقاء لمحت الإيجابيّة في صوته التي نتجت عن تفكير منطقيّ كما وصفها لي، يقول: “أحبطت في البداية عندما رُفضت للسفر، لكن بعد تفكير طويل رأيت أنّ مواقع التواصل الاجتماعيّ هي حلّ مناسب وخاصّة اليوم لأنشر ما أعمل عليه، وبعد جهدٍ كبير وتعاون مع أصدقائي و دراسة طويلة لهذا المشروع؛ انطلقنا لنشره حتى نحثّ الموسيقيين على المشاركة “.
غريبة هذه السنين التي أمضيناها نبحث عمّا نريد، وندخل في دوّامات عديدة تجلب لنا بعضاً من الراحة، وفي طريق بحثنا عن رغباتنا نهزل وتضيع طاقاتنا في تجارب تبوء بالفشل مرات عديدة، ” بس إلّا ما تزبط ” عبارة يستند بعضنا عليها، فاليوم كشباب سوريين بتنا قادرين على العيش في كافّة الظروف، ودفاعاتنا النفسيّة تحكم نفسها بالأمل، فعندما ستنتهي الحرب ونبدأ إنتاجنا؛ سنصل متأخّرين، وهذا خيرٌ من الندم بين جدران اليأس.