أول مشهد سيلفت انتباه القادمين لمدينة سلمية من الناحية الغربية لها، وجود قلعة تتربع أعلى “تلة” سمراء بعد أن كانت بركاناً خمد في قديم الزمان، وكأنها إحدى جدات المدينة القلائل اللواتي لم يفقدن الذاكرة حتى الآن، وأكثرهن خبرة بأصول استقبال الضيوف، فالبعض قد يراها تلوح بكف يدها الخشن، وآخر يجدها تبتسم بعد أن مسحت عن خديها دموع “الإهمال” والاشتياق.
لم تأخذ قلعة “شميميس” مكانتها الحقيقية في كتب التاريخ كما يجب، على عكس قيمتها المعنوية في قلوب أهالي المدينة، كما أن الدراسات الأثرية التي أقيمت هناك يمكن وصفها بأنها “شحيحة” على عكس “المياه” التي كانت تغمر الخندق المحيط بها على عمق 15 متراً لمنع وصول الأعداء وتخزين المياه في آن واحد.
اليوم تظهر على القلعة والجبال المحيطة بها ملامح “الكهولة” التي تعطي وقاراً يرغب التاريخ بالحصول عليه كلقب يرافقه أينما ذُكر، لكن ليس هذا هو المنظر الوحيد الذي تستطيع مشاهدته هناك، فملامح الضعف والوهن واضحة أيضاً، وكأن “شميميس” تستلقي على فراش المرض دون علاج أو أي اهتمام يذكر، بالرغم من زيارات أبناء المدينة المتواصلة لها في الصباح والسماء كونها المتنفس المجاني والطبيعي الوحيد ضمن المدينة.
ضحكٌ ونحيب
يتردد أغلب أهالي المدينة ومن مختلف الأعمار على القلعة خلال أيام الأسبوع، وتكثر زياراتهم لها في بداية الربيع وأيام العطل، ليبدو المشهد وكأن الأبناء والأحفاد يجتمعون عند كبير العائلة، الذي أعد وليمة كبيرة دعا إليها الجميع.
أصوات الضحك والموسيقا والأغاني الشعبية تملأ المكان، رائحة الفرح على بساطة تركيبته فواحة وتنتشر برشاقة بين الجميع لساعات، كل هذا يختفي مع آخر المغادرين للمنطقة، متيحاً للشحوب أن يتمكن من مساحات واسعة من جسد القلعة المتعب دون أي مقاومة تظهر بعملية ترميم ترده عنها.
“أبو اسماعيل” البالغ من العمر 47 عاماً، والذي اعتاد الذهاب بشكل شبه يومي إلى القلعة في ساعات المساء، يقول أن “شميميس مهملة، وحيدة وتنتحب يوميًا”، فآخر عملية ترميم خضعت لها كانت في القرن الثاني عشر ميلادي، ومن تاريخه حتى اليوم لم يتكفل أحد بإزالة الغبار عنها سوى الريح .
ويكمل الرجل الأربعيني: “القلعة هدمت ذات مرة إثر زلزال قوي ضرب المنطقة قديماً، وتعرضت للغزو والحصار عدة مرات لكنها رفضت أن تستسلم أو تهزم، وبقيت رمزاً من رموز المنطقة، فهل يعقل أن نجبرها نحن على الاستسلام؟”.
عراقة القلعة وأصالتها الناعمة لم تحمها من الوجه القاسي لـ”التمدن”، فالبناء الحديث على هيئة “مزارع” صغيرة بعضها لا يتجاوز الـ 500 م يكاد يخنقها ويشوه المساحات المتبقية من السهل المحيط بها، والواقع خارج المخطط التنظيمي للمدينة حتى الآن ودون أي شروط مناسبة للبناء هناك.
لذلك يخشى الكثير من محبي “مشوار القلعة” أن يفقدوا متنفسهم القريب المتبقي، فخصخصة المكان وقسوة الزمن وغياب أي عملية ترميم جديدة تهدد الجدة “شميميس” أول تهديد حقيقي قد يرغمها على إغلاق أبوابها والاستسلام .
قد يعتب من يزور القلعة في سره على الزمن الذي استطاع أن ينهش من صخرها ما يشبعه، لكنه بكل تأكيد سيغفر له نهمه كونها الطبق الأثري الوحيد من هذا النوع في المنطقة، الغني بالذكريات ومصدر الفخر لمدينة بأكملها .