هل سمعت يومًا عن جيلٍ معلّق؟ نعم ربّما تكون قد سمعت عن ظروفٍ بريدية قيد الإرسال، أحلام تنتظر التحقق، مكالمةٌ منتظرة. لكن هنا، على هذه الأرض جيل معلّق قيد جبران الخواطر، “جيل التسعينات”.
قيد السفر، الانتظار، الحبّ، الحرب، الهجرة، السفارات، امتحانات القبول، التقنين، الضوء، الأحلام، الكوابيس، مواقع التواصل، جواز السفر، شعبة التجنيد، الزواج، العائلة، التجاعيد المبكرة، الدولار، وغيرها.
يمنى سلمان، طالبة طبّ بشري، تنتظر الموافقة الأمنية الأخيرة لتجري الامتحان في الأردن وتسافر نحو ألمانيا: “أتمنى أن أفقد ذاكرتي عند وصولي ألمانيا لأنني سأبقى رهن الذكريات، عائلتي، أصدقائي، جامعتي، لكن يبدو أن فكرة التمسك بالأرض تتمدد وتتقلص مع الزمن، مشاعرنا متناقضة حول هذه البلاد التي تحبنا وتكرهنا، تعانقنا وتضع قدمها في ظهرنا”.
يمنى التي لم تكمل عامها السابع والعشرين تودّ عيش جمال أيام عمر العشرينات الذي سمعت عنه فقط: “مع السنة الأولى للحرب؛ كانت تلك اللحظات التي من المفترض أنها أجمل أيام عمرنا، غير أنها اقترنت بالقتل والدمار والخراب والليدات وصوت محركات الكهربا، (انعمت عيوننا وقلوبنا).
تتابع يمنى: “يعتبر البعض من سكّان هذا الجيل، أنهم ناجون، لم تصفعهم الحداثة بجزئها الفارغ وأخذوا العقلية الجميلة من الأجيال السابقة، تستطيع أن ترى اختفاء أولاد وبنات هذا الجيل من أغلب الشوارع، مدن الألعاب، المقاهي، المكاتب، إمّا أولاد أو جيل الثمانينات وما فوق. جيل التسعينات يزحف نحو الخارج كما الجيوش، إلى أقاصي العالم، مع ما تبقى له من خيبات وأحلام مؤجلة، ضحكات ناقصة تبحث عن مكان يكملها، ثقوب في الروح تبحث عمن يرتقها”.
حال توفيق حداد، الشابّ المهندس الذي تخرج حديثاً، لا يختلف عن يمنى. يسعى الشاب العشريني للسفر إلى الهند أيضا: “يقولون لي أني مجنون، ماذا سأفعل ضمن بلد صنّف اليوم من أسوأ البلدان وأكثرها تلوثاً، أظن أنني أفضل الموت من قلة الهواء على قلة الشعور بالأمان والسلام، هنا تستطيع أن تطبق مقولة “من لم يمت بالانتحار مات بغيره”، يظن البعض أننا نبالغ في وصفنا لأيام شبابنا، غير أن ذاكرتنا نشأت على الخوف والرماد، نحن لم نعش، خصوصاً أن الموت كان يلاحقنا”.
يكمل حداد بحرقة من فقد كل شيء: “جميع أصدقائي رحلوا، كلّ من أحبهم هاجروا وهاجر القلب قتيلاً معهم، انظري حولك هنا، في بلدنا لا يوجد شيء سوى صدى أحلام ومشاريع وضحكات وخطط، وانتظار على الفرن، على السرفيس، للكهرباء، الإنترنت، حياتنا مرهونة بصعود الدولار ونزوله”.
يتابع الشاب المهندس: “قليلاً ما ترى شخصاً من مواليد التسعينات يعيش في سوريا، إذا ما فتحت الصفحة الشخصية لأحد الأصدقاء المقترحين على فيسبوك غالبا سيكون كالآتي من سوريا. مكان الإقامة: ألمانيا، هولندا، فرنسا، السويد، الهند، الإمارات العربية المتحدة….. وتطول القائمة، بعضهم كان محظوظاً بمنحة أو لمّ شمل، لكن الغالبية ذاقوا من العذاب أمرّه. مرقى الجلجلة لجيل التسعينات كان شاقاً، ولا زال مستمراً في إلقاء أحماله على قلوبهم، في سوريا تكون القصص واضحة على الوجوه خصوصاً وجوه أبناء جيلنا، ربّما لأن القصة واحدة، غير ما نراه عن بلدان العالم في التلفاز أو نقرأه في الصحف، نلاحظ في وجوههم لوناً لا نعرفه نحن، لون الثبات على أرضية”
وختم حداد حديثه بالقول: “تمرّ بعض النكات المنطوية على الأسى هنا وهناك على مواقع التواصل الاجتماعي عن هذا الجيل الضائع، فلا يدري قارئها يضحك أم يتألم. “جيل الألفينات تزوجوا والتمانينات صار عندن ولاد ونحنا التسعينات بس منقول مبروك”، نادراً ما ترى معرضاً للرسم، أو حفلة موسيقية أو مسرحية تخلو من أسماء سورية من شباب التسعينات المهاجر كأسراب الطيور.
أحلامٌ كبيرة تفوق القدرة على الوصف مني بها أبناء هذا الجيل، كبروا سريعاً وسط الحرب، نادراً ما ترى حلماً عادياً لفتاةٍ أو شابٍ من أبناء هذا الجيل، “الشوبينغ” والسفر والتسلية بعيدة عنهم فهم من كبر على المسؤولية سريعاً من عمل خلف مقود السيارة ليلاً ودرس في الجامعة صباحاً، من رحل إلى جبهات الحرب ولم يعد، من عملت في المقاهي لساعات متأخرة ونذرت حياتها للجماعات التطوعية.
“سنرجع يوماً إلى حيّنا ونغرق في دافئات المنى” غنتها فيروز يوماً، تجوب هذه العبارة العالم الافتراضي على صفحات من نتمنى أننا لو لم نخسرهم يوماً.