“هي لغة حوار حية، حين نجيدها تصبح من أقوى وسائل التواصل الإنساني في العالم”، تتحدث نتالي عصباتي (20 عاماً) بشغف عن موسيقا الجاز، التي بدأت بالاهتمام بها ودخلت عالمها السحري منذ حوالي ثلاث سنوات.
تمسك الفتاة بآلة الترومبيت النحاسية، وتقضي ساعات طويلة كل يوم في التدريب على فنّ تقول بأنه أثر على طريقة تفكيرها بالموسيقا والمفاهيم المرتبطة بها وأيضاً دورها في حياة الشعوب، حيث تؤمن بما تقوله نينا سيمون وهي واحدة من أعظم فناني الجاز في العالم، بأن “الجاز ليس مجرد موسيقا عادية، بل هو نمط تفكير أو كما نستطيع أن نسميه أسلوب حياة أو وجود”.
ويتفق مع هذا الرأي كثير من العازفين والمغنين في سوريا اليوم، حيث يستمرون رغم العنف والحرب بالإيمان بقوة موسيقا الجاز “كأداة للسلام والحوار والتفاهم والتسامح” كما تصفها منظمة اليونسكو، ويسعون لتحويل هذا الفن إلى منصة للحوار بين الشباب السوريين، حيث يرون بأنه يتجاوز كونه مجرد ألحان وكلمات، ليكون طريقة تعبيرية عالية المستوى مع تعدد أنماطه والآلات المستخدمة فيه، واعتماده الارتجال والحوار بين العازفين والمغنين كأهم أدواته.
تحدٍ صعب
دخلت موسيقا الجاز سوريا منذ أعوام طويلة، واشتهرت العاصمة دمشق على وجه الخصوص بمهرجانها السنوي الذي كان يُقام كل صيف بحضور فرق جاز محلية وعربية وأجنبية محترفة. ككثير من الأنشطة، توقّف مهرجان الجاز عام 2011، وتصحّر المشهد الثقافي في البلاد مع مغادرة مئات العازفين والمغنين.
“أشبه بمن يحاول نحت الصخر بنقاط الماء؟ عملنا اليوم هو كذلك بالفعل”، يقول عازف الترومبيت دلامة شهاب، والذي أخذ على عاتقه منذ حوالي عام إعادة سوريا لخارطة موسيقا الجاز، عن طريق تأسيس فرقة دمشق لموسيقا الجاز، وتدريب عدد من الموسيقيين الشباب على أساسيات ومبادئ هذا الفن، وتأهيلهم لخوض غمار تجربة عزف الجاز وتكوين كوادر محترفة على مستوى البلاد في المستقبل.
“الموسيقا وخاصة الجاز قادرة على جمع السوريين اليوم. ولأننا نعشق الموسيقا ونحب الشباب، نريد لهم إتقانها وتحويلها لجزء لا يتجزأ من حياتهم، ونسعى لنشر الجاز في سوريا من جديد وعلى نطاق اوسع”، يقول العازف الثلاثيني.
يواجه هذا العمل الذي يتعاون فيه شهاب مع عدد من كبار الموسيقيي السوريين كثير من التحديات، فالجاز لا مكان له اليوم في سوريا مع انتشار الأنماط الموسيقية الأخرى خاصة الشعبية، إضافة لعدم توافر الأماكن الملائمة سواء للعزف أو التمرن، وغياب الموسيقيين المحترفين. أما خطوة التدريب فهي الأصعب، حيث يتطلب الجاز تقنيات مقعدة ومختلفة لا تزال غير منتشرة في مناهج تعليم الموسيقا بسوريا حتى اليوم، والتي تتسم معظمها بالكلاسيكية، وبالتالي لا يعتبر تعليمه للشباب أمراً سهلاً.
من الموسيقيين المرافقين لشهاب في رحلته عازف الإيقاع سيمون مريش، والذي يتحدث عن أهمية وجود أرضية للجاز خاصة لدى جيل الشباب: “نحن عاصرنا عشرات المهرجانات والاحتفالات ولنا الكثير من الذكريات مع الجاز، وشباب اليوم لديهم توقٌ لعزف الموسيقا الجيدة والاستماع لها، وهنا يأتي دورنا كموسيقيين محترفين بأن نقدّم لهم كل ما يليق بعقولهم وأحاسيسهم، فهم بوصلتنا”.
بدوره يرى عازف البيانو والمؤلف والموزع ناريك عبجيان، بأن موسيقا الجاز هي منصة للحوار وعرض الأفكار والمواهب، خاصة عند تقديمها في إطار حفلات ومهرجانات تحفّز على الإبداع وتعطي الأفضل للجمهور. بذلك، يعتقد عبجيان بضرورة إتاحة الفرصة للشباب بتعلّم مبادئ الجاز والانطلاق في عالمه الرحب والمشاركة في فعاليات مخصصة له، “وما أحوجهم إلى ذلك اليوم”، وفق تعبيره.
أداة للحوار ومد جسور التواصل
يشبّه عازف الفلوت أحمد هادي الخياط (17 عاماً) موسيقا الجاز التي بدأ بتعلّمها منذ عدة أشهر بأنها “حوار مليء بالسعادة والمحبّة، فإن نظرنا لعازفَي جاز نشعر وكأنهما يتكلّمان وربما يتغازلان بالألحان”.
ويعتقد الخياط بضرورة نشر هذه الموسيقا اليوم في سوريا خاصة بين الشباب، “فهي قادرة على أن تكسبنا الألفة بين بعضنا، وأيضاً أن تخرجنا من الجو المشحون والمنغلق الذي نعيش فيه، لعالم من الحداثة والمتعة والتجدد”.
وبالنظر لتاريخ الجاز كموسيقا للشعوب الساعية للتحرر وتحقيق العدالة، ترى نتالي عصباتي بأن هذا النمط الموسيقي قادر على تقريب الناس من كافة الطبقات الاجتماعية والفئات العمرية وتعزيز علاقاتهم، ما يعني إمكانية أن يلعب دوراً كبيراً في إقامة جسور تواصل من جديد بين السوريين الذين اختبروا حرباً عنيفة خلال السنوات الماضية.