قلعة حلب سوريا
من أمام قلعة حلب/ أحمد عبد المنان شباك سوري
article comment count is: 0

رفض الآخر كسل اجتماعي

ربما يكون من السهل الاعتراف بسهولة عيش المرء بصحبة أناسٍ يشبهونه، سيحس بدرجة كبيرة من الأمان لأنه قادرٌ على التنبؤ بكل شيء قد يفعلونه؛ ما الثياب التي يرتدونها؟ ما الوجبة التي سيطهونها للغداء، ما الكلمات التي سيستخدمونها للتعبير عن مشاعرهم. سيكون ذلك آمناً بالطبع، لكن سيكون مملاً جداً.

يقول حسين (30 عاماً) الذي ولد في إدلب وعاش في مدن سورية مختلفة: “في البداية لم يكن الموضوع سهلاً، الشعور بالاختلاف يبدأ تجاه  الجنس الآخر. ثم بعد ذلك وخارج المنزل تبدأ المشاكل مع أناس من طبقات اجتماعية أخرى، تكبر الدائرة ويصبح الاختلاف ديني وهو الذي يولد لديك الأسئلة الأولى عن حقيقتك وانتمائك وتعاليمك”. يضيف حسين أنه ومع تقدمه في السن وانتقاله للعيش في دمشق استمر في مراقبة مساحات الاختلاف وهي تكبر وتتسع: “بدأت الدائرة تشمل الاختلاف الفكري والسياسي وهو الذي يخلق نزعة من التعصب أو الحاجة للانخراط ضمن فئة تناسبك، ليصبح الآخر أو الآخرين هم الطرف الثاني الذي لا يخدم أفكارك”. يقول حسين أن الفهم السريع لهذا الاختلاف كان أحياناً شبه مستحيل بالنسبة له، لكنه يضيف: “كان الحل ومازال على الأقل بالنسبة لي، هو الاستماع، الاصغاء وسماع القصص والتفاصيل من الآخر ونبذ كلّ ما هو مؤطر ومعمم”.

تحدثنا ليليان (23 عاماً) عن تجربة السكن في المدينة الجامعية كأول مكان استطاعت فيه التعرّف على أشخاص من خارج محافظتها الأم السويداء. تقول أنها وفي تجربة السكن المشترك اكتسبت أصدقاء جدد، وكانت تستمتع بشكلٍ خاص بتنوع اللهجات والتعرّف على أطباق جديدة كانت تأتي بها صديقاتها من محافظات ومدن سورية مختلفة. لكن تقول ليليان أن هناك بعضٌ من زميلاتها كن أكثر رفضاً لتجربة الانفتاح على أشخاص جدد، وهؤلاء نصحوها بـ “عدم الاختلاط بالغرباء” وحاولوا جعل غرفة السكن في المدينة الجامعية خالية منهم. لكن ليليان لم تقبل بذلك وفضّلت الدفاع عن إحدى صديقتها الجديدات، بحيث شكلت الفتاتان حلفاً صغيراً حاول الوقوف في وجه الإنغلاق والاستسلام للقناعات المُسبقة عن الآخر. تقول ليليان أن أكثر ما أحبته في أصدقائها القادمين من مدن سورية أخرى كان بساطتهم وبعدهم عن التعقيدات في التعامل مع الآخرين.

في المقابل تقول ميس (33 عاماً) أن استراتيجيتها في التعرّف على أصدقائها من محافظات ومدن أخرى قائمة على اللعب وتقمّص الأدوار: “أن أحمل نفسي وأسافر فأعيش عدة أيام في منزل أصدقائي، أتعلم معهم كيف أقطف الثمار من الأرض، أو كيف أحضر طبقاً جديداً، أو كيف أعيش ببساطة حياتهم اليومية”.

لا يمكن الحديث عن جهود المجتمعات أو الأفراد في ما يتعلق بقبول الآخر المختلف أياً كان، دون استعادة مصطلح “الإعلاء أو التسامي” وهو مفهوم محوري في التحليل النفسي. فالتسامي يعرّف بكونه حيلة نفسية لا شعورية يحاول الفرد من خلالها التعبير عن دوافعه غير المقبولة بصورة أخرى أكثر قبولاً للمجتمع، فالطب أو الملاكمة بهذا المعنى إعلاءٌ للرغبة بالعنف، والرقص مثلاً إعلاء للغرائز الجنسية.. وهكذا يعود الفضل لفكرة التسامي في خلق صورة الإنسان كما نعرفه اليوم. الأمر أشبه بقرار اتخذه الإنسان باعتلاء درجٍ ضخم، حيث يحاول مع كل خطوة توسيع مداركه وصولاً  إلى صورة أكثر اكتمالاً.

وبالعودة للحديث عن رفض الآخر المختلف، النقاش هنا لا يتعلق بما إذا كان لدى الأفراد ميولٌ للركون إلى مساحاتهم الآمنة والاختباء ضمن حشود تشبههم من أي نوع. إنما ينصب النقاش على ما إذا  كان هؤلاء الأفراد  سيتخذون يوماً قراراً بالتسامي عن هذه الميول الضيّقة لصالح انتماء أشمل وأكثر تطوراً. يكون بمثابة اعتلاء درجة أخرى من السّلم. لكن الاعتلاء أو التسامي هنا، لا يكون فعلاً لا شعورياً وإنما واعياً ومقصوداً.

في العمق يمكن القول أن الاستسلام لرفض الآخر ينطوي في جذره على قدرٍ كبير من الكسل. كما لو أن الأفراد فقدوا الرغبة الهمة في إكمال اعتلاء الدرج وفضّلوا بدلاً من ذلك الركون إلى جماعات ضيقة مؤلفة من أفراد يشبهونهم في الظاهر في المعتقد واللباس والشرائع والطقوس، لأن قبول الآخر المختلف يستلزم جهداً وصبراً لا يمتلكونه. والحقيقة أن تجاوز النزوع للانغلاق ليس بالأمر الأسهل، فهو أشبه بعملية حسابية معقدة تدفع بالفرد للبحث أبعد قليلاً على ما قد يجمعه بالآخرين أو ما يفرقه عنهم.

قد يكون من المفيد اليوم التفكير في الدوافع النفسية التي تجعل البعض يرون في حدود طوائفهم ومذاهبهم مساحات آمنة لا يفكرون في الخروج منها أو توسيعها. فالخارج الرحب يبدو بالنسبة لهم مبهماً وغير مفهوم. لكن الحقيقة أن المرء وإن سلّم أمره واتخذ قراره بتضييق نطاقات انتماءه بدلاً من توسيعها سيجد نفسه حبيس دوائر انتماء أضيق فأضيق. الطائفة ذاتها تنقسم إلى طوائف أصغر وأكثر تعصباً، حتى يجد نفسه في النهاية وحيداً لا يثق بأحدٍ ولا يشبه أحداً.

هل وجدت هذه المادة مفيدة؟

اترك تعليقاً