كنت أنظر إليها ملّياً، أتأملها وهي تنتظر بفارغ الصبر قهوتها السادة، مُشرعةً علبة التدخين خاصتها، وهي تغمض إحدى عيناها من باب الاندماج بلذة ما تسحبه من دخان، ثم لتطلب بعدها بشكل مباشر من النادل “في مجال تحطولنا مارسيل!”.
ممتع أن يكون لكلّ شخص فينا فرصة القيام بانقلاب ذاتي على نفسه، فيغيّر الدور الذي يؤديه بحسب سيناريو المرحلة التي هو بها، سواءً كان سيناريو زمانياً، فيزيولوجياً أو حتى جغرافياً.
فكثرة الألوان في مدينة واحدة تجعلك على استعداد دائم لتجربتها كلها والتعايش معها بطريقة أو بأخرى.
قهوة جغرافيّة
أذكر جيداً ما قالته لي (هبا)، صديقة أيام الدراسة عن القهوة، قبل تغيير مكان سكنها وانتقالها إلى أحد أحياء دمشق: “ناقصنا مرار! ما بيكفينا الحياة سودة، لسا نحنا نشرب شي أسود”.
كان ذلك ضمن أحد نقاشاتنا الدائمة ومحاولاتي المستمرة لإقناعها بأن سواد القهوة ليس سوى فخامة تُضاف إلى تاريخها العريق.
(هبا) ذاتها التي باتت تُصنف نفسها اليوم ضمن مدمني ذلك المشروب الأسود، والذي لا يكتمل نهارها إلا بفنجانٍ مليء به، يرافقه سيجارة تأتي بطول بنصرها، على أنغام مارسيل وفيروز وزياد.
ليس من المعيب أن تتغير حُليماتنا الذوقية مع تغير أعمارنا فنحب ما نكره، وبالعكس، لكن هل من الطبيعي أن نقوم بتركيب حُليمات ذوقية جديدة فوق تلك القديمة لمجرد أن تتلاءم مع من حولها سواء رغبنا بذلك أم لا!!.
وفي بعض الأحيان لا يقتصر الأمر على طعامٍ وشراب، بل يتعدى ذلك ليصل إلى اللباس، الشَعر، الذوق الموسيقي وحتى طريقة التعبير عن الذات، وقد لا يتطلب الأمر انتقالاً جغرافياً كاملاً، بل يكفي أن تكون زيارة قصيرة لتجعلك تكتب سيناريو سريعاً لدورك مبنياً على معرفتك المسبقة بطبيعة المكان الذي تقصده.
تغيير آني
عندما زرت (رهف) للمرة الأولى، في منزلها وسط العاصمة دمشق، لم ألحظ أي شيء مختلف بالنسبة للفتاة العشرينية التي اعتدت أن أراها يومياً في الجامعة، سواءً بأفكارها، لباسها أو غير ذلك.
فالواحد منّا بالشكل الطبيعي تختلف طريقة طرحه لنفسه ضمن منزله وأهله، وبين جامعته وأصدقائه ومحيطه الخارجي.
لكن ما قد نضطر إلى التعايش معه في بعض الأحيان هو أن نطرح أنفسنا بطريقتين مختلفتين بين أهلنا ضمن المنزل وأقاربنا في الدائرة الثانية، وذلك فقط لمجرد أنهم يقطنون في مكان آخر ضمن المدينة.
“هيك بكون مرتاحة أكتر، يعني بلاقي أنو طالما بقدر حل القصة من عندي بالتياب فـ ليش حتى حط حالي وأهلي بموقف محرج وأسمع شي كلمة بتدايق أو أتحمل نظرات تشكيك بأخلاقي لمجرد أني بلبس هيك، بالآخر هي طبيعة مكان ولازم نحترمها، والأهم إني هيك ما بحس حالي غريبة وجاية من غير كوكب”
قد تكون (رهف) محقة، فمن منا يحب شعور الغريب عن الآخرين! لكن هل شعور الغريب عن أنفسنا أفضل؟!
تنميط إيجابي
ومن زاوية أخرى، ربما نستطيع اعتبار الطابع الواحد لمنطقة ما؛ هو أمر مريح لبعضنا، وبهذه الحالة سيكون كلٌّ منا قادراً على اختيار أسلوب ونمط الحياة الذي يرغبه، وما عليه سوى التوجه به نحو المكان الملائم.
كما هو الحال بالنسبة لـ (سعد) الذي تهيأ بكامل شخصيته للانتقال بها إلى حيث يجد نفسه وأفكاره وأسلوبه: “برأيي حلو الواحد يلاقي مكان بيشبهوا وبيرتاح فيه، خاصة إني بمرحلة عم أسس حالي وشخصيتي ومستقبلي، فأنا بحاجة لمكان كون مرتاح فيه لأقدر أنتج صح وأبدع بالشي اللي بحبو”.
غربة الياسمين
على الرغم من تغييره لاسمه من (كمال عبد القادر) لـ (سامي كلاود) في رواية (غربة الياسمين) للكاتبة (خولة حمدي)؛ في سبيل الانصهار مع المجتمع المضيف، وبالتالي مقدرته في الحصول على فيزا من الترحيب والانخراط تجعله يعيش بسلام، إلا أنه حاول الحفاظ على جزءٍ من هويته واحتفظ بالاسم الأول عربياً، اعتقاداً منه أن ذلك لن يؤثر على اندماجه البارد مع محيطه الحالي، فمن اندمج بهويته ولغته وانتمائه، لن يتأثر بمجرد اسم!.
هيّ شعرة صغيرة بين أن نتقبل محيطنا ونتعايش معه، وفي الوقت ذاته نحافظ على من نحن بكل ما فينا وندفعه لتقبلنا، وبين أن نعيش الاستغراب بكافة تفاصيله لمجرد إحساسنا النمطي بأن الآخر لن يتقبلنا إلا حتى نصبح نسخة طبق الأصل عنه.