“أنت من وين” هو السؤال الذي يُراود مسامع “علي” من سنوات ما قبل الحرب، حين يقابل أي شخص لأوّل مرة، ويصرّ السائل على معرفة “من أين علي بالضبط”، بالمنطقة والشارع والبلدة.
ويوضح علي “كانت طريقة مبطّنة لمعرفة طائفتي، أو كان سؤالاً خجولاً للتأكد من مذهبي”.
يعتقد علي (34 عاماً) أن الطائفية كانت موجودة قبل الحرب، ويقول: “كانت الطائفية متخفية بكلمات مثل (ضيعة) بمعنى أنه علوي مثلي، أو (ابن العم) بمعنى أنه شيعي أو مسيحي من البلدة المجاورة”.
يعمل علي محاسباً في شركة خاصة، ويحرص على معرفة مذاهب من يعمل معه في نفس المكتب، ويؤكّد “ابن الأقلية يتحسّس الطائفية أكثر من ابن الأكثرية، ربّما لأننا نستشعر الخطر أو نخاف أو ربّما لأننا تعرضنا للاضطهاد بسبب معتقداتنا فيما مضى”.
لا يرى علي أن الطائفية من حيث المبدأ هي شيء سيء، بل “من الجيد أن يحبّ الإنسان طائفته ومجموعته التي ينتمي إليها، هي فطرة الإنسان، لكن الخطر يبدأ حين تفرض معتقدك على الآخرين أو تتخذ موقفاً منهم بسبب معتقداتهم”.
سافرت لميس إلى العاصمة الفرنسية منذ خمس سنوات، ترعرعت في مدينة الرقة، وعاشت حياتها الجامعية في دمشق، وتقول: “الطائفية قبل الحرب كانت مثل الهواء، قد نشعر به لكنّنا لا نراه، وقد نستنشقه لكنّنا لا نمسكه بأيدينا”.
درست لميس في كلية الإعلام بجامعة دمشق، وعملت في شركة غذائية، ولم تواجه الطائفية قبل الحرب بشكل مباشر في عملها الخاص، بل “برزت الطائفية في مؤسسات الدولة، وسمعتُ بها أوّل مرة حين كان لي والدي أن فُلاناً تمّت ترقيته في العمل لأنه من تلك المنطقة”.
في الوقت ذاته، تنفي الشابة العشرينية أن تكون البلاد قد عاشت “إقصاءً دينياً”، لأن الناس بحسب رأيها “مارست ولا تزال تمارس حرّيتها الدينية، فالمسلم يمكنه الذهاب إلى المسجد، وكذلك المسيحي يصلّي في كنيسته”.
“الحرب ساعدت على إظهار التعصّب الديني أكثر منه إقصاء” تختم الشابّة الرقّاوية.
أما رانيا، ابنة مدينة درعا، “لم تسمع بلفظ الطائفية” إلا حين انتقالها للدراسة في لبنان بعد إكمالها الدراسة الثانويّة، وتشرح خريجة المدرسة الأميركية في بيروت: “كنت أعلم أن هنالك سنة وشيعة ومسيحيين ودروز لكن لم أكن أعي معنى كل تسمية”.
واجهت رانيا (32 عاماً) الطائفية في لبنان بشكل مباشر، فكان الجميع يسألها بداية عن اسمها واسم عائلتها، ثم يكون السؤال التالي عن طائفتها بشكل مباشر، “أما في سوريا فالأمر لم يكن كذلك أبداً” تقول رانيا.
عادت الشابة إلى دمشق في العام 2008 وهي تدرك تماماً معنى كل طائفة، إلى أن جاءت الحرب، تشرح رانيا: “لا أقتنع أنها حرب طائفية، إنها حرب مصالح تستخدم فيها الطوائف كأدوات، قبل الحرب كنّا متعايشين، ولم تكن سيرة الطائفية مرحّب بها على موائد الطعام”.
ورغم تأكيدها بعدم وضوح الطائفية في سوريا، إلا أنها تعترف برفض أبيها أو أمها القبول بأي زوج ينتمي لطائفة مختلفة، والموضوع بحسب رانيا ليس دينياً فحسب، بل مناطقيّ أيضاً، فالطائفية المناطقية كانت متفشّية، وابن دمشق لا يتزوّج من ابنة درعا.
“أنت كافر” هي الجملة التي لا تزال عالقة في أذني فارس، حين وجّهتها إليه إحدى صديقاته، ولم يزل حينها طالباً في المدرسة “الآسية” بحي باب توما في دمشق.
يقول الشاب العشريني “نعم الطائفية موجودة، وكنت أشعر بالتمييز دائماً لأنني مسيحي”.
يتحدّث فارس عن تأثير البيئة والمنطقة والحارة التي يسكن فيها، لكن التأثير بقي محدوداً “بسبب وجود سلطة يخافها الجميع”.
جاءت الحرب وتراجعت المتابعات الجنائية بسب ظروف البلاد، ويشرح فارس “الحرب كانت أشبه بطنجرة الضغط التي انفجرت.. لم تنفجر من فراغ، بل من ضغط سنين متراكمة.. كذلك الطائفية”.
لا يقبل ذوو فارس أيضاً زواجه من فتاة مسلمة “لكنّني شخصياً أقبل” يؤّكد الشاب الجامعي.
تجرّأت رنيم لمحاولات التفكير بالارتباط مع شباب يخالفونها في الطائفة في السنوات التي سبقت الحرب، أما الآن “فالفكرة مرفوضة تماماً”.
تعرّضت رنيم لمحاولات صدّ متتالية من عدّة شبّان، والسبب “المباشر والوحيد كان طائفتي”.
وتؤكّد الشابة ابنة ريف حمص، أنها تعرف “حالات طلاق كثيرة صارت بعد الحرب بسبب اختلاف الطوائف أو الآراء السياسية المبنية على المذاهب”.
أما حسين فكان مدهوشاً في سنوات الحرب الأولى من كم الطائفية الذي رآه وعايشه ويقول: “كنت أعلم أن هناك طوائف كثيرة في سوريا، لكن لم أكن أدرك كمّ الحقد المتخفّي وراء قناع التعايش.. ربّما كان موجوداً لكن بشكل مقنع”.
حسين من مدينة نبّل شمال سوريا، يحلّل واقع البلاد الديمغرافي قبل الحرب ويقول “الطائفية كانت موجودة بدليل التوزّع السكّاني بحسب المناطق، ويعود هذا الأمر لعشرات السنين، فمعروف للجميع دلالة طائفة كل مكان وكل قرية وبلدة في سوريا”.
يروي حسين (33 عاماً) قصّة حدثت معه في إحدى السهرات مع أصدقائه الذي مازحه أمام البقيّة حين عرّفهم عليه وقال عنه “صحيح شيعي.. بس آدمي كتير”.
ويؤكّد حسين “كنّا مقسّمين دائماً بحسب الطوائف وإن لم يكن ذلك معلناً، حتى أثناء لعب ورق الشدّة، لم نجتمع إلا في صفوف المدرسة”.