على الرغم من أن سوريا بلدٌ صغيرٌ نسبياً، يمكن للمرء أن يقطعه من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه في عدة أيام فقط، إلا أن نسبة لا يستهان بها من أبنائه لم يسبق لهم زيارة محافظات أخرى غير تلك التي عاشوا فيها. ظل الكثيرون يؤجلون هذه الرحلات لسببٍ أو لآخر معتقدين أن الوقت سيحين لها. لكن الحرب جاءت، وقلبت جميع المخططات؛ البعض أصبحوا دون إرادتهم حبيسي مناطق محددة أو محاصرة، وآخرون اضطروا للنزوح قسراً عن مدنهم. وبالرغم من قسوة تجربة النزوح وما حملته من ألم وخسارة، لكنها كانت فرصة لكي يتعرف السوريون على بعضهم عن قرب، ويكتشفوا خصوصية المحافظات الأخرى.
قد يكون من الصعب حصر العوامل والتغيرات التي عاشها الذين اضطروا للوفود إلى محافظات أخرى، فالأمر يبدأ من اختلاف الطقس والمشاهد الطبيعية، مروراً بالحياة الاقتصادية والتقاليد الاجتماعية والدينية المختلفة والجديدة. فبعض سكان المدن الداخلية الذين لم يسبق لهم رؤية البحر مثلاً، وجدوا أنفسهم يعيشون في شاليهات تطل عليه مباشرة. حتى أن رائحة السمك المشوي اختلطت بروائح المحاشي الحلبية الشهية مؤذنة ببدء حقبة جديدة من حياة المدن السورية.
لم تكن حلا (39 عاماً) التي تركت مع زوجها محافظة حمص، تعرف أي شيء عن طبيعة الحياة في طرطوس قبل أن تنتقل إليها. تقول إن أكثر ما صدمها افتقاد المدينة لما تسميه “فلسفة العمل” التي لمسته بعد عملها كموظفة أو تأسيسها عملاً خاصاً بها. تضيف حلا بأنها تفتقد مفهوم “الحارة” التي كانت تعيشه في حمص. لكن في المقابل، كان الانفتاح في العلاقات الاجتماعية بمثابة مفاجأة إيجابية لها كما تقول، فهي ومنذ سكنها في طرطوس وإلى الآن لم تتعرض لمعاكسة واحدة “فلا أحد يتفحص الآخرين وينتقد لباسهم أو نمط حياتهم”. وتتفق مع هذا الرأي نسرين طالبة المعهد العالي للموسيقى التي قدمت من حمص إلى دمشق بعد الحرب مؤكدة أن أكثر ما أحبته في دمشق أنها مدينة “تستوعب الجميع، يعيش فيها ناسٌ مختلفون بخلفياتهم وطبائعهم، والكل يجد نفسه فيها”.
“كانت السويداء تبدو لنا بعيدة جداً، كما لو أنها في آخر الدنيا” هكذا تقول السيدة أم خالد (40 عاماً) التي اضطرت إلى النزوح من منطقة قلعة الحصن في ريف حمص إلى السويداء. تصف السيدة السنة الأولى من حياتها في بيئة مختلفة تماماً عنها: “قدمنا إلى السويداء في وضعٍ نفسيٍ سيء، وكنا نادراً ما نغادر البيت في فترة سكننا الأولىى، وإذا ما اضطررنا الذهاب إلى السوق مثلاً، كنا نشعر أن الناس ينظرون إلينا كغرباء”. وتضيف أن الأمر بدأ يختلف مع الوقت، مع اعتيادها المكان وتكوين صداقات جديدة. تضيف أم خالد أن أكثر ما أعجبها في السويداء زفة العروس وطقوس تقديم منسف المليحي، بالرغم من أنها أحياناً لم تكن تستطيع تمييز كلمات الأهازيج الشعبية. في المقابل تشير إلى أنها كرهت في السويداء عدم التزام الناس بالوقت أو الطريقة التي يتم فيها ركن الناس لسياراتهم على الرصيف بحيث لا يتركون للمشاة مكاناً للعبور.
الشبان القادمون من مدن كبرى ذات إرث صناعي عريق كحلب، أو سكان ريف دمشق مثل سقبا أو دوما، جلبوا معهم خبرات جديدة للمحافظات الصغيرة مثل السويداء. إذ لم يقتصر الأمر فقط على إتقان الشبان الوافدين لحرف محددة بل امتد أحياناً إلى المهارة في القيام بأكثر من حرفة في ذات الوقت، ما أنعش الحياة الاقتصادية وسد الكثير من الثغرات في مجال سوق العمل.
وفي المقابل كان للأمهات الوافدات إلى مدنٍ وبلدات جديدة طريقتهن الخاصة في الاندماج عبر تبادل الوصفات وطرائق الطهي. فكما تقول سيدة وفدت من دير الزور إلى منطقة دمر وفضلت عدم الإفصاح عن اسمها، أن النساء الديريات علّمن جاراتهن الجديدات في منطقة وادي المشاريع ومشروع دمر طرائق جديدة لطهي البامية، كما عرفهن أيضاً على طريقة تحضير أقراص الكليجة الديرية وهي حلوى مصنوعة من الطحين والتوابل. وتضيف السيدة أنها تعلمت بدورها من جاراتها الفلسطينيات حلوى المقروطة الفلسطينية بالتمر. وبالرغم من أن عادات وأعراف “الممالحة” التي تعني أن من يتشارك مع غيره الخبز والملح لا يخونه أو يعاديه، تعتبر عادة عربية وبدوية قديمة. إلا أنها ما تزال حاضرة بصورة أو أخرى ضمن الوعي الاجتماعي في سوريا، ونراها تلعب دورها بعد الحرب في تخفيف الشعور بالاغتراب عبر عادة “السكبة” أو تبادل الأطعمة والحلويات للترحيب بالجيران الجدد في المبنى أو الحي.
لا شك أن تجربة النزوح قاسية وتحمل الكثير من الصعوبات والمشاق، لكنها ومن منظورٍ آخر فرصة إيجابية استثنائية يجب اقتناصها بالمعنى الوطني لبناء مجتمع أكثر تماسكاً والتحاماً. كما لو أن الحرب ودون أن تدري تسمح بفرصة تعارف متأخرة بين أناس من بيئات وخلفيات مختلفة. فعلى مقاعد الدراسة، وفي الأسواق والشقق السكنية، في الباصات وأماكن العمل، ينشأ اليوم جيلٌ جديد يعرف نفسه أكثر ويعرف بلاده.