علَت أصواتنا على الطاولة التي كنّا نجلس عليها في مقهى تعوّد على رائحة سجائرنا في طرطوس، حيث ارتفع صوت محسن بنبرةٍ صارخة وحزينة، فمحسن الذي يدرس الطب في جامعة الأندلس اختار أن يختص كطبيب نسائيّة وما كان يصرخ بشأنه هو غضبه المكبوت الذي جاء به من المنزل لاعتراض أهله على اختيار هذا التخصّص والذي يعدّ عاراً برأيهم بالنسبة لشاب من عائلة متديّنة كأسرته، برأي محسن (24 عاماً) أنّ “هذا الاختصاص ليس حكراً على جنس النساء فالمهم هنا أن يمارس كل طبيب دوره بكلّ مهنيّة، وأمّا عن سبب اختيار هذه الرغبة فيرى محسن أن البلد بحاجة جميع الاختصاصات وما رغّبه بذلك هو فهمه الكامل من خلال دراسته للطب النسائي، يضيف: “إذا اخترت مثلاً أن أكون طبيب جلديّة لن أبدع فيه كالطب النسائي، فعندما قرّرت الذهاب في هذا الطريق كان نتيجة قرارات مدروسة خلال فترة دراستي، وفي النهاية لن يردعني أحد عن اختياري”.
لم تتوقّف المشكلة على هذا الاختصاص بالتحديد بالنسبة للطلبة، حيث تعاني نساء مجتمعنا من خوف زيارة طبيب نسائي وبالأخص الذكور منهم، وترجع الأسباب لمعتقدات وعادات مجتمعيّة توارثتها النساء عن أمّهاتهن أو غيرة زوجيّة أو حتّى خوفٌ من التحرّش، وعلى الجانب الآخر نلاحظ محاولة للتخلّص من هذه الهواجس التي شكّلت عقداً عند البعض، يعود لزيادة المعرفة والثقافة في البيئة التي تعيش كلّ فتاة فيها.
عانت دعاء (32 عاماً)، عاطلة عن العمل، “من عقدٍ نفسيّة بسبب أهلها والمجتمع بعد طلاقها، فاليوم تسكن في بيت أهلها مع أربعة أطفال ويعاني رحمها من اضطرابات ما بعد الحمل، فحملها المتكرّر والمتتالي لأربعة أطفال سبّب لها ضرراً كبيراً ممّا شكل خطراً عليها في الحمل مجدداً، وفي سؤالي عن السبب الذي دعاها لوضع جسدها في هكذا خطورة تقول: “طبيبتي النسائيّة في ذلك الوقت لم ترى مشكلة أو تنبّهني بأنّ خطر الحمل المتكرّر قد يصيب رحمي، فعندما كنت أتعرّض لأوجاع كنت أكبتها في داخلي وأخاف أن يعلم زوجي بها فيطلقني”، وفعلاً بعد أن صرخت أوجاعها رغماً عنها تعرّضت للطلاق بعد أن علم زوجها بأنّها لن تعود قادرة على الإنجاب بعد الآن، فجميع أطفالها فتيات ولم تنجب له الصبي الذي سيحمل اسمه على حدِّ وصفها، وكان السبب هو جهل طبيبتها التي كانت دائماً ما تقول لها بأنّ هذه الأوجاع طبيعيّة!.
حتى وقتنا الحالي تعاني الفتيات من خجلٍ كبير لزيارة الطبيب النسائي، فالبعض يفضّل الدكتورة للراحة التي تقدّمها لهن، والبعض يجهل بالضرورة القصوى لمراجعة الطبيب كل فترة للاطمئنان على الوضع الصحيّ بشكلٍ عام، حيث تفضّل السيّدة لمى طبيبها الذي تعوّدت عليه منذ صغرها، وتعي جيّداً مضار أن تخفي على بناتها التغيّرات التي ستحدث لهنّ، فكانت دائماً ما تفضّل توعيتهنّ حتى قبل البلوغ، وبذلك تداري المخاوف التي ستتفاجأ منها الصغيرات عند حدوث الدورة الشهريّة، وبالنسبة لاختيارها جنس الطبيب تقول: “طبيب العائلة الذي أراجعه كلّ فترة اختارته والدتي لسمعته المرموقة طبيّاً وليس بناءاً على جنسه، والمعاملة التي أعامل بها بناتي اليوم هي نتيجة الثقافة التي تربيت عليها والتي أحاول أن أورّثها لهن”.
أذكر جيّداً في مدرستي أنّ الفتيات كثيراً ما كانوا يتكلّمون بمواضيع البلوغ والتغيّرات الجسديّة التي تطرأ عليهنّ في تلك الفترة، لكن في المقابل لم ألحظ في المناهج الدراسيّة و”التربويّة” بأنّ هذا الموضوع كان يلقى الاهتمام الذي يحتاجه، ثمّ أنّ بعض الفتيات كانت تتفاجأ بما يحدث لها وتحصل على معلومات “قد تكون خاطئة أحياناً” من صديقاتها.
تحمل سلمى (28 عاماً) وهي خرّيجة ماجستير في الأدب الإنكليزي مسؤوليّة كبيرة تجاه أختها الصغيرة التي تفاجئت ببضع قطرات من الدم في ملابسها الداخليّة، فكان عليها أن تخبرها بما تحمل لها هذه المرحلة وكيف ستتغيّر حياتها بعد الآن. ما يخيف سلمى حقّاً هو ضغوط أهلها على أختها الصغيرة، فبرأيها أنّ البلوغ الجسديّ لا يتزامن مع البلوغ العقليّ، كما أنّها تعي شدّة تعصّب أهلها والكيفيّة التي سيعاملون بها أختها بعد أن يعلمون ببلوغها، وتضيف: “أذكر جيّداً كيف فرحت أمّي عندما أخبرتها بما حصل وكيف اشترت لي حجاباً لأرتديه وبدأت تعاملني كصبيّة كبيرة وتحدّثني عن المسؤوليّات التي تنتظرني، وكلّ ما كنت أفكر به هو الحصول على لعبةٍ جديدة في عيد ميلادي!”.
يحاول أخصائي الطب النسائي الدكتور محمد أحمد (50 عاماً) بثّ الراحة في نفوس المتردّدات على عيادته من النساء عبر الحديث معهنّ قبل الفحص ومناقشتهنّ ببعض الأمور الصحيّة دون الضغط عليهن، كما يطلب منهنّ أحياناً إحضار أزواجهنّ ليشعروا بالطمأنينة على حدّ قوله، يضيف: “من واجبي المهني والأخلاقي أن أشجّع النساء على الفحص الدوري للإطمئنان على صحتهن وبالأخص ممن يفحصن للمرّة الأولى”، ثم يختتم حديثنا بقوله: “الانطلاق ببرامج التوعية وتشجيعها إن وجدت هي الملاذ المتاح اليوم لتوعية فتياتنا وشبابنا على مخاطر صرف النظر عن الأمور الصحيّة باعتبارها أولويّة في حياة الإنسان”.