في أحد المقاطع من ألبوم زياد رحباني الذي يحمل عنوان بالأفراح، تخفت الموسيقى قليلاً قبل أن يتصاعد لحنٌ سريع في إيقاعه، يبث في من يسمعه سعادةً وحماساً غامضين. تسمى هذه القطعة الموسيقية (شيراك) وهي من الفلكلورالأرمني أعاد زياد توزيعها وقدمها إلى شريحة واسعة من الجمهور الذي لم يسمعها سابقاً. والحقيقة لا يمكن الحديث عن الوجود التاريخي للأرمن في المنطقة العربية عموماً وسوريا خصوصاً دون أن يرتسم في الذهن أثر مشابه: موسيقى مملتئة بالحياة.
تشير المراجع التاريخية إلى أن وجود الأرمن في سوريا يرجع إلى زمن الفتوحات الإسلامية، لكن في سنة 1915 تضاعف عددهم عندما هُجروا إليها إثر إبادتهم على يد الأتراك. وتقدّر اليوم أعدادهم بما يقارب 30 ألفاً بعد أن هاجر قسمٌ كبيرٌ منهم في سنوات الحرب، ويتوزع الأرمن في مدن ومحافظات سورية كثيرة أبرزها حلب ودير الزور ودمشق.
خلقت ذكرى المأساة صلةً عميقة بين الأرمن وباقي أطياف المجتمع السوري، قامت على التعاطف والعزاء. لكن الحقيقة أن الشباب الأرمني اليوم يحب أن يعرف الآخرون عنه معلومات أخرى، مُعاشة ويومية أو مرتبطة بالثقافة والإرث، تتجاوز ذكرى أحداث التاريخ المأساوية.
تقول كارون كوركجيان، خريجة كلية الصحافة التي تعمل في السفارة الأرمنية في سوريا، أن امتلاكها لمرجعيتين ثقافيتين أرمنية وسورية أكسبها خبرةً مضافة في التعامل مع الناس في حياتها الخاصة والعامة. وتضيف بأن أكثر ما تحب أن يعرفه الناس عن الأرمن أنهم يبرعون بالاختراعات والموسيقى، فتعلّم الجانب الثقافي يسير كما تقول بالتوازي مع التعلم المدرسي في أرمينيا بحيث يكاد يصعب أن تجد طالباً لا يتعلم الموسيقى أو الشعر أو يمارس رياضات ذهنية مثل الشطرنج.
تشير كارون أيضاً إلى الثقافة المطبخية الأرمنية التي دخلت إلى المطبخ السوري والعربي مثل الجبنة الناعمة والتوشكا وكباب البيتنجان وغيرها الكثير، لكنها ترى أن بأن أهم أشكال تأثير الأرمن في المجتمع السوري تجلى في الجانب الصناعي عبر حرفتي الصياغة والميكانيك التي برع فيها الأرمن وساهموا في تطويرها تاريخياً وتضيف: “لهذا كثيراً ما يُسمع عبارات من قبيل الأرمني شغله نضيف أوالأرمني معلّم”. وتقول كارون في ختام حديثها بأنها تكره وجود صورة نمطية خاطئة عن الأرمن بأنهم منغلقون، فالحقيقة أنهم بنظرها مندمجون في المجتمع السوري مع إصرارهم الحفاظ على ثقافة ولغة أجدادهم.
يختلف الشاب (ه.ن) عن كارون في الكثير من النقاط، فهو يرى مثلاً أن طهي الأطباق الأرمنية أو توظيف الموسيقى الأرمنية يتجاوز في بعض الأحيان حدود التأثر أو الامتزاج الثقافي وصولاً إلى سرقة بعض المؤلفين العرب أو الأتراك لألحان أرمنية دون أن ينسبوها لأصحابها. يبدو الشاب أقل سعادة بفكرة امتلاكه لجنسيتين أرمنية وسورية، لأن هذا يشعره أحياناً بالضياع، كأنه يمتلك شخصيتين يختار استخدام إحداهما حسب الموقف أو الأشخاص الذي يتعامل معهم.
بدورها تشاركنا ساندرا أغبشيان خريجة كلية السياحة بمعلومات عرفتها مؤخراً عن أثر الأرمن في الحياة السورية، إذ تشير بعض المصادر إلى أن الفضل يعود لهم في إدخال أول جهاز تصوير بأشعة رونتنغن، وأول جهاز تصوير ضوئي إلى البلاد. كما أنهم أدخلوا أول سيارة إلى حلب (1909) إلى جانب إدخال مهن الخراطة واللحام وصناعة بطاريات الآليات والسيارات وتصنيع قطع السيارات والحصادات.
من جانبها تقول هاسميك، التي تعمل كسكيرتيرة ومدربة تانغو، بأنها فخورة لكونها تحمل الجنسيتين الأرمنية والسورية. تضيف بأن أكثر ما تحب أن يعرفه الآخرون عن الأرمن أنه شعب كافح ليواصل حياته بعد المجزرة متجاوزاً جميع المآسي التي مر بها، وتضيف أيضاً بأن الأرمن يحبّون السلام ويقدّسون العمل ويحبون الحياة الكريمة والأصالة في كل شي.
هذا وتشير هاسميك أيضاً إلى جمال اللغة الأرمنية التي تتميّز بقواعدها السهلة الممتنعة. تضيف بأنه معروف عن الأرمن التحدّث بصيغة المذكر للفتيات والمؤنث للصبيان، وهذا خاطئ تحديداً بين أبناء الجيل الجديد. تقول في هذا الصدد: “نحن خريجي المعاهد والجامعات السورية ونتحدث العربية بطلاقة ونمارس كتابتها وقراءتها بشكل ممتاز، ولقد حان الوقت لتغيير هذه الفكرة وعدم ربطها مع الشخصيات الأرمنية التي يتم تمثيلها في المسلسلات والأفلام السورية”.
واليوم لا يمكن تصوّر مشهد من تاريخ سوريا المعاصرلا يكون الأرمن جزءاً منه، يدخلون المشهد صناع دؤوبين يكشفون اللجام عن آخر اختراعات العصر، أو محاربين شجعان يقاتلون صفاً إلى صف مع الجنود في المعارك الوطنية. يقفون في زوايا قصية كي يوثّقوا بعدسات كاميراتهم صور الناس والبلاد التي تتغيير يوماً بعد يوم.
*نشرت هذه المادة لأول مرة بتاريخ 22 تشرين الأول 2018