لم تستطع إحدى السيدات أن تدرك لماذا كانت تنتابها نوبات قلق شديدة إذا ما قدم لها أحدهم قطعة من الحلوى. وكذلك الأمر بالنسبة لشابٍ عشريني لم يفهم سبب شعوره بالجزع عند سماع صوت صياح الديك. أدرك الاثنان متأخراً أن قطعة الحلوى وصوت الديك مجرّد منبهات تحفّز لديهما ذكرى مؤلمة مدفونة في أعماق نفسيهما وأن لمشاعرهما وكوابيسهما وقلقهما في علم النفس اسمٌ خاص: “اضطرابات ما بعد الصدمة”، فالسيدة تعرضت للتحرش من بائع حلوى حينما كانت صغيرة، والشاب تعرّض للاختطاف والاحتجاز في منطقة ريفية مهجورة لم يكن يسمع فيها سوى صوت ديك يصيح من بعيد. لكن الصدمة ورغم مرور الوقت لم تتلاشى وظلت آثارها تلاحقهما.
تركت أحداث السنوات السبع الماضية في سوريا الكثيرين في ما يشبه الصدمة إزاء ما حصل من عنفٍ ودمار وانقلابات استثنائية، لكن رغم ذلك، لم يختبر الجميع ما يعرف بـ”اضطراب ما بعد الصدمة”. فهناك من وجهة نظر خبراء علم النفس فرقٌ كبير بين حالات الإجهاد وتعكّر المزاج والقلق العام، وبين إصابة المرء بهذا النوع من الاضطراب النفسي المستقل بأسبابه وأعراضه.
وللوقوف أكثر على التفاصيل كان لنا لقاء مع المعالج النفسي (علي عبد الله) الذي عمل منذ تخرّجه من قسم علم النفس عام 2005 كمعالج ومدرب لمدربي الدعم النفسي الاجتماعي في العديد من المؤسسات والمنظمات الإنسانية.
يحدث اضطراب ما بعد الصدمة، وفق ما يقول عبد الله، إثر التعرّض لما يسمى “خبرة راضة” أي مهددة للحياة، وتتضمن الحوادث الخطيرة، المعارك والحروب، الاعتداء الجنسي أو الاغتصاب، الاعتداء الجسدي، الاختطاف والأسر في الحروب، الكوارث الطبيعية. وقد يحدث أيضاً عند وفاة أحد أفراد الأسرة، لكن أعرضه لا تبدأ بالظهور إلا بعد شهر أو أكثر من التعرض للحدث الصادم.
وتتضمن أعرضه الكوابيس واضطرابات في النوم، إلى جانب الشعور بأن التجربة تلاحق المرء كمشاهد إقحامية وتعود إليه مهما حاول طردها. وقد تولّد أحداث عادية هذه الذكريات أو تحفّزها رائحة أو صوت معين. ويحس من يختبر اضطراب ما بعد الصدمة بالحاجة لتجنّب مواقف وأماكن تسبب له الكثير من الإزعاج. هذا إلى جانب الشعور بالتيقّظ الدائم، بحيث يعجز عن الاسترخاء لأنه يحس أنه في خطر دائم. هذا وكثيراً ما يترافق هذا اضطراب بالإكتئاب المرضي وشعور المرء بالفقد.
وقد لا تظهر أعراض هذا النوع من الاضطرابات إلا بعد سنوات كالأمثلة المذكورة في المقدمة، بحيث يبدو للمرء بأنه استعاد حياته الطبيعية حتى يظهر مثيّر أو محفّز يوقظ شعوره بالاضطراب.
وعند سؤاله عن توقعاته حول عدد المصابين بهذا النوع من الاضطراب في الداخل السوري، ذكر السيد علي بأنه من الصعب التكهّن بالعدد في ظل غياب وجود إحصاءات حول الموضوع، لكن من الممكن تقدير نسب عامة.
أما فيما يتعلق بأساليب وسبل العلاج، فهناك منهجان أساسيان: دوائي ونفسي، والنفسي هو الأكثر نجاحاً بنظر السيد علي. يتضمن العلاج النفسي بدوره عدد من التوجهات الأساسية أكثرها فاعلية من وجه نظر السيد علي “العلاج المعرفي السلوكي”. وفي هذا النمط من العلاج يضع المعالج والمريض بداية ما يسمى عقد علاجي، يقدم فيه المعالج معلومات عن الاضطراب ويشرح للمريض مسببات الأعراض التي يختبرها، كما يساعده في “شرعنة مشاعره”، أي استيعاب أنها مشاعر طبيعية ومبررة وأن جميع من اختبروا هذا النوع من الصدمات أحسوا بها أيضاً. ومن ثم يشرح الخطوات التي سيتّبعها في العلاج والتي قد تتضمن بشكل أو آخر استعادة التجربة الصادمة، بحيث قد يطلب من المريض أن يكتب ذكرياته التي تسبق وتواكب الحدث الصادم أو يسجلها صوتياً، مع ضرورة التأكد بأن يتم كل ذلك بالتدريج وضمن بيئة آمنة لا تُشعر المريض بالتهديد.
وفي الختام يشير السيد علي إلى أن الأفراد يختلفون في طريقة تلقيهم للصدمات، فهناك الكثير من العوامل والمتغيرات المؤثرة، منها مثلاً طبيعة الخبرة الصادمة وشدتها، والسمات الشخصية للفرد وأسلوبه العام في التعامل مع المشاكل، إلى جانب قدرته على التكيّف ووجود بيئة داعمة وحاضنة له تساعده على تجاوز المشكلة، سواء كان ذلك من أفراد أسرته والمقربين منه أو عن طريق مساعدة تخصصية من معالجين نفسيين.
في بيئة مُتغيرة ومليئة بالتحديّات والمخاطر قد يكون من الصعب أن يبقى الشخص محمياً من الصدمات، لكن امتلاك معلومات عن هذا النوع من الاضطرابات يجعل الأفراد أكثر تحكماً في حياتهم، وربما يساعدهم ومن حولهم في تجاوز الأحداث الصادمة التي يختبرونها بحيث تمسي مجرد مطب مؤلم استطاعوا من بعده الوقوف مجدداً وإكمال مسيرهم.