سوريا «لوحة فسيفساء كبيرة»، أو هذا ما يقال حينما يراد التغني بالنسيج الاجتماعي المعقد والمتداخل لبلاد تضم الكثير من الأديان والطوائف والقوميات. لكن الحقيقة أن العيش داخل اللوحة بدلاً من تأملها من مبعدة؛ تجربة مختلفة تماماً، وتحديداً بالنسبة للذين قرروا مواجهة هذا التنوع بكل ما فيه من تحديات ومتع، وخاضوا تجربة الزواج واختيار شركاء من دين أو قوميات مختلفة.
ينال موضوع الزواج بين الطوائف اهتماماً إعلامياً ومجتمعياً كبيراً، فالإعلام لا يجد صعوبةً في الترويج لقضايا تتضمن بنظره قدراً كبيراً من الإثارة عبر التركيز على عناويين «الحب المحرّم» و«جرائم الشرف». لكن قلما نرى التركيز منصباً على قصص أقل درامية أو على التجربة ذاتها وما قد تحمله من غنى وخصوصية لمن تجرؤوا على خوضها.
ترى ندى، طالبة دراسات عليا في مجال الفنون المسرحية، انتماء زوجها لطائفة ثانية لم يشكل بحد ذاته عامل إغناء لحياتها، وإنما «ارتباطها به وما أتاحه هذا الارتباط من فرصة لاختبار الكثير من التجارب والتحديات والمشاعر المختلفة بشكل مشترك، هو الذي أثرى تجربتها الشخصية وأنضجها». وتضيف مؤكدة بحماس أن تجربة الزواج هذه ساعدتها فعلاً على الانفتاح، لأنها وحسب قولها: «وضعتني ضمن ظرف يضطرني للتعامل مع أشخاصٍ كثيرين من بيئة بعيدة نسبياً عن بيئتي.. ولكنهم أصبحوا مع الوقت عائلتي».
ورداً على من يرى بأن الزواج بين خلفيات ثقافية أو دينية مختلفة غير ناجح، تجد ندى أن لهذا النوع من الاختلافات دوره في إنجاح أو إفشال الزواج، ولكنه ليس عاملاً حاسماً. فتأثيره كما تقول «يعتمد على شكل التعاطي معه، بحيث يمكن تحويله لعامل إيجابي أو سلبي، حسب مرونة الأشخاص وقدرتهم على الانفتاح الفعلي على الآخر».
من جانبها تقول الكاتبة والصحفية وفا، التي تحمل الجنسيتين السورية والمصرية وتنتمي أيضاً لدين مخالف لدين زوجها منار، أن تجربة الزواج بين الأديان المختلفة «تجعل الذين قاموا بهذا الخرق الاجتماعي قادرين على إعطاء الحقوق لفئات أخرى مقهورة اجتماعياً بحيث يكونون أقدر على تقبل الكثير من الاختلافات التي يرفضها المجتمع».
وعند التفكير بابنتهما تامار التي لم تبلغ من العمر عامين. يقول منار ووفا أن الطفل الذي ينمو ضمن علاقة منفتحة كهذه ستتشكل خلفيته الاجتماعية بالنظر إلى النجاح أو الفشل في تربيته. بمعنى أنه قد ينمو ليصبح منفتحاً على الثقافات الأخرى، أو متطرفاً رافضاً لهذا النوع من العلاقات. لكن التخوف الأكبر بالنسبة للوالدين يتعلق بإقصاء المجتمع للأبناء الذين جاؤوا حصيلة هذه التجربة، بالنظر إلى أن المجتمع أميل إلى تصنيف الناس بالنظر إلى انتمائهم الديني أو الطائفي. «بالرغم من أننا لا نحتفل بالأعياد الدينية قررنا جعل تامار تحتفل بكل الأعياد» تقول وفا ضاحكةً كأنها تحسم بذلك أعقد الأسئلة بأبسط أسلوبٍ ممكن، كي تضمن لابنتها أكبر حصة ممكنة من الفرح.
فيما ترى المحامية غنوة أن قرارها بالارتباط من شخص يخالفها في المذهب كان تغييراً للخط المرسوم لحياتها، ما منحها قوة لم تكن تملكها في السابق للإفصاح عن آرائها والدفاع عنها. ترى غنوة أن التحدي الأكبر الذي واجهها كان يتعلق بتقبل الاختلافات المتعلقة بالطقوس الدينية، في الفرح كالأعياد، أو في الحزن كطقوس العزاء ومواجهة الموت، هذا إلى جانب اختلاف التصورات حول مفاهيم الحلال والحرام. تقول: «لم يكن الأمر خلافاً بقدر ما كان استغراباً وتعرفاً على عادات بيئة جديدة، ومع الوقت ألفنا نحن الاثنان هذه الاختلافات وفهمناها بحيث لم تعد تشكل مشكلة». وتشير غنوة معتبرة أن الفترة الأولى في الارتباط تكون هي الأصعب «إلى أنه يستطيع الاثنان إيجاد طريقهما المشترك». وفي النهاية تأمل غنوة أن تخلق تجارب الزواج هذه جيلاً أكثر توازناً وتقبلاً للاختلافات وأبعد عن التطرف.
لا يمكن الحكم على مدى نجاح تجارب الزواج بين الأديان في سوريا اليوم، تماماً مثلما يكاد يكون من المستحيل التنبؤ بمصير أي تجربة زواج مهما كانت طبيعتها. خاصةً وأن التغيرات الاجتماعية العميقة في سوريا والمتأثرة بالمناخ الذي فرضته الحرب، تترك ثقلها على بنية الأسرة السورية. لكن المؤكد أن الذين يخوضون هذه التجربة يراهنون حتماً على أن المشترك الذي يجمعهم مع الشخص الذي اختاروه شريكاً أكثر بكثير من الاختلافات التي تفرّقهم. وهم يراهنون أيضاً أن أطفالهم سينمون ويكبرون في بيئة غنية بالأفكار واللهجات والنكهات والموسيقى والذكريات من أماكن ومدن مختلفة. بحيث يكون التنوع والاختلاف جزءاً متأصلاً في شخصيتهم، كما لو أن كل واحد منهم سيحمل في داخله لوحة فسيفساء صغيرة.