الثامنة مساءً بتوقيت حلب، أقِفُ في نهاية حي المشارقة، على الطريق الواصل بينه وبين حي بستان القصر، تعود ذاكرتي ستة أعوام، عندما كان ذلك الطريق المعبرَ الوحيد الذي يربط شرقي حلب بغربها، أتذكر أمي التي كانت تتسارع دقات قلبها عند وصولنا إليه، وفمها لا يتوقف عن قراءة بعض الآيات، إيماناً منها بأنها تحمينا، أو تكون شفيعةً لنا عند الله في حال اختارنا رصاص القناص.
يعود إلى ذهني مشهد ذلك الطفل الذي يركض مسرعاً في المعبر ولا يجد من يلاعبه سوى ذلك القناص اللعين، الذي يضرب يمينه فيركض شمالاً ويضرب شماله فيقف باكياً، ينتظر من ينقذه، تمضي الأحداث في ذاكرتي عامين، حينما أصبح معبر الموت أمنيةً لنا بعد أن أُغلِق منتصف عام 2014، وعندها فُصلت أحياء حلب عن بعضها تماماً، وأصبحت زيارة بيت جدي في حي “أقيول” تحتاج السفر إلى السلمية في ريف حماه ومن ثم العودة إلى الأحياء “الشرقية” في رحلة قد تستغرق 14 ساعة.
على الرغم من مضي سنة ونصف تقريباً على عودة مدينة حلب واحدة، لكن عبارات الفصل التي خلفها ذلك المعبر مازالت متداولة إلى اليوم، فإذا مررت بشوارعها لا بد أن تسمع مصطلح حلب الشرقية والغربية، حتى أن ألسنة بعض سائقي السرافيس مازالت تنادي “عالشرقية عالشرقية”.
يرى أحمد ماهر (24 عاماً) أن ما مضى على حلب خلال فترة الفصل لا يمكن أن يُمحى من أذهان أهلها ببضعة أشهر، يقول: “أهم ما في الأمر أن تلك العبارات هي مجرد تسمية علقت ألسنة الناس، ولا يعني ذلك أن الشعب مازال يعيش حالة الانفصال تلك، فخلال ستة سنوات أُطلق على جميع أحياء شرقي حلب تسمية الأحياء الشرقية، فتعود سكان المدينة على هذا المصطلح، وبمجرد عودة تداول أسماء الأحياء في تلك المناطق سيمحى لفظ حلب الشرقية والغربية نهائياً”.
أما هيا بدلة (30 عاماً) فتعتقد أنه يجب البدء من وسائل الإعلام، حيث النشرات الإخبارية مازالت تستخدم عبارة الأحياء الشرقية إلى اليوم، لذا يجب أن نمحي تلك التسمية من الوسائل الجماهيرية، لأنها تعبر عن استمرار حالة الفصل بين مناطق حلب، مما يرسخ تلك العبارات في أفكار عامة الناس.
فيما يرى عبدالمجيد وهو طالب في كلية الفنون الجميلة، أن الفن هو الحل الأمثل في الدعوة إلى التماسك، ويقترح أن يتم العمل على كتابة عبارات تؤكد وحدة حلب وتماسكها على جدران ذلك المعبر، يتابع قائلاً: “أشياء بسيطة يمكن أن تعزز حالة التماسك الاجتماعي، كما حدث في برلين بعد هدم جدار الفصل بين أحياء المدينة، حيث تحولت أطول قطعة متبقية من ذلك الجدار إلى معرض للرسم مفتوح أمام الجميع، وأصبحت تقام هناك سنوياً احتفالات بسقوط ذلك الجدار الشهير، واليوم أصبح أحد الرموز التي تدعو إلى التماسك لا الانفصال”.
أتابع طريقي للمنزل بعد جولةٍ طويلة من شرقي حلب إلى غربها، وأصل إلى ساحة الجامعة، ثم أصعد إلى سرفيس الحمدانية، وعند جلوسي على الكرسي، يضع سائق السرفيس أغنية “لا شرقية ولا غربية بالآخر كلنا حلبية” للفنان شادي جميل، أتأمل كلماتها، وألاحظ وجود رجل مسن بجانبي يدندن كلماتها مع المطرب مبتهجاً، بمشهدٍ كان كافياً لإعادة الأمل لي بعودة حلب على ماكانت عليه سابقاً، جسدٌ واحد بروحٍ واحدة.
*نشرت هذه المادة لأول مرة بتاربخ ٢٨/١١/٢٠٢٠.