أحد شوارع دمشق القديمة- شباك سوري
article comment count is: 0

عن “اختلاط الحرب” في دمشق

في أحد أزقة حي ركن الدين الدمشقي، يُمسك طفلان كتفي بعضهما بيدين اثنتين، فيما تتشابك اليد الأخرى لكلٍّ منهما مع قدمه. تمرُّ ثوان يسيرة قبل أن تُسمع صرخات “كول بامية”. السؤال عن أصل اللعبة التي تحتاج إلى قوة تحمّل كبيرة يحيلك إلى أن اللعبة المعروفة باسم «الشكام» قد “نزحت” مع أهاليها من ضفاف نهر الفرات، وباتت تُلعب الآن بالقرب من أحد محلات “السوبر ماركت” في الحي. فيما يشير تداخل لهجات اللاعبين إلى أن اللعبة لم تعد حكراً محلياً على أهل الجزيرة السورية.

على غرار الأحداث الكبرى في الحياة التي تحتملُ جانبي الإيجاب والسلب، كذلك هي الحرب. قد يبدو استغراق التصفح في أوراقها الكثيرة القاتمة بهدف البحث عن أوراقٍ بيضاء ما ضرباً من ضروب “الترف الفكري”، لكن ما إن تكون هذه الأوراق البيضاء قابلة للبناء عليها حتى تنقلب المعادلة.

في دمشق، كما في معظم المحافظات السورية، أدت الحرب بهذا القدر أو ذاك إلى زيادة درجة الاختلاط داخل المجتمع السوري، وهنا المقصود تحديداً هو ذلك النوع من الاختلاط “الديني” و”المناطقي” الذي جاء كنتيجة طبيعية لعوامل النزوح والانتقالات التي تمت على امتداد سنوات الحرب السبع داخل الحدود السورية. وفي طبيعة الحال، كانت المدن والأحياء التي ازدهرت فيها تجارة العقارات – بيعاً أو تأجيراً- سبّاقة في مسألة التعاطي مع المتغيرات الديموغرافية التي أنتجتها الحرب.

ينظر الشاب مازن الجباعي (26 عاماً) إلى المسألة من زاويةٍ محددة، حيث يرى الطالب في كلية الهندسة الميكانيكية بدمشق أن عملية الاختلاط الاجتماعي في مدينته (جرمانا) لم تحدث بقفزة واحدة، بل مرّت بمراحل عدة: “في البداية، كان التعاطف مع الوافدين إلى جرمانا وما عانوه في الحرب هو المنطق السائد، ثم لاحقاً، وبكل صراحة، بدأت تتسلل إلى أنفس السكان بعض الضغينة اتجاه ظاهرة النزوح بشكلٍ عام، ولا سيما أن التراجع الكبير في الخدمات نتيجة الارتفاع الهائل في عدد القاطنين قد لعب دوراً مهماً بتعزيز هذا الاتجاه”. لكن – ومع التحسن التدريجي الذي ترافق مع انخفاض مستوى العنف في البلاد- يؤكد الجباعي أن “هذا الاتجاه قد تقلّص الآن إلى حدودٍ كبيرة، والمدة الطويلة التي قضاها الوافدون هنا خلقت علاقات طبيعية بين سكان المدينة”.

الاختلاط الاجتماعي الذي أفرزته الحرب ساعد – بحسب السيدة ريمة أبوسمرة التي تقطن في منطقة صحنايا على أطراف العاصمة السورية- “بفهم كل منّا الآخر بشكل لم يسبق لنا أن تعاملنا معه قبل الأحداث، فالاحتكاك الذي جرى ساهم في تغيير بعض العادات الاجتماعية المتوارثة نتيجة انغلاق بعض البيئات داخل البلاد”، وتتابع أبوسمرة: “تعرّف كل مواطن إلى الجانب الآخر من سورية التي كان يعتبرها مجرد صورة مكبَّرة عن بيئته المحلية”.

في هذا السياق، يرفض طارق الزعبي (درعا) وتالة محمود (دمشق)، الطالبان في كلية الفنون الجميلة بالعاصمة، مصطلح “التعايش” من أساسه. يشرح الزعبي فكرته: “شو يعني تعايش؟ التعايش يَفترض وجود نقيضين يتعايشان لسببٍ ما ولمصلحة مشتركة، والحالة الطبيعية تقتضي ألا ينظر السوري إلى السوري بوصفه نقيضاً، بل بوصفه شريكاً. أنا أفضل أن نسمّها حالة العيش، لا التعايش”. بينما تعبّر محمود عن شعورها بأن “الجيل الجديد الناشئ تجاوز الكثير من المعوقات الاجتماعية التي كانت مفروضة وإن بشكلٍ خفي في زمن الجيل الأكبر. فالآن وفي هذه الكلية نجتمع مع بعضنا دون افتراضات مسبقة عن الآخر، هذا الآخر الذي كنا نتعامل معه بمنطق التعميم تبيَّن لنا أنه أكثر تنوعاً بكثير مما كنا نعتقد. لديّ مثلاً صديقين من تلك المحافظات التي يسمونها نائية، لكن بينهما من الفروقات ما يثير التعجب حقاً، سواء من ناحية القناعات أو نمط المعيشة أو العادات أو حتى مستوى المحافظة والتحرر». وبعد حديث طويل مع عدد آخر من المنضمين إلى النقاش، تعترف محمود بشيء من العتب على النفس: “عندما أسقِط حالة التعميم عن أبناء المحافظات التي ذكرتها أدرك شيئاً فشيئاً أنه ينبغي عليَّ أن أسقِط حالة التعميم ذاتها عن أبناء محافظتي، فليس الجميع متماثلاً حتى وإن شغل حيزاً جغرافياً لمدة طويلة وربطته مع بعضه روابط كنا نعتقد أنها خاصة جداً وأنها النموذج الذي ينبغي أن يحذو الجميع حذوه”.

هل وجدت هذه المادة مفيدة؟

اترك تعليقاً