*تمسك مريم صندوقها الصغير بقوة بين يديها، وبصعوبة بالغة، تقبلُ الكشف عما اختزنته من مراسلاتٍ ورقية فيه. غير أنه بعد مراوغة طويلة، وبعدما يتكشّف أن ما فيها لا يعدو كونه رسائل “مماثلة” من حيث مضمونها لما يتبادله الشباب السوري يومياً، يبرز السؤال: “لماذا هجرنا الورق؟”، ذلك الفراغ الذي كان يسمح برسائل “متعوب عليها”.
ليس الموضوع – من وجهة نظر مريم (30 عاماً) حنيناً كئيباً للماضي وأدواته، كما أنه ليس دعوة للقفز فوق منجزات التكنولوجيا بما تتضمنه من وسائل “تواصل اجتماعي”، إلا أنه تساؤل عن تلك “المفقودات” التي لم نعلم بخسراننا إياها ونحن نسير إلى الأمام قدماً، تساؤل عن مصير ذلك التواصل الإنساني المباشر غير المقيّد بحدود الرموز والوجوه الملوّنة في أجهزتنا “الذكية”.
“نحن، الذكور- أيضاً نحنُّ لتلك الأيام”، يقول ماجد بركات، المحامي الذي أنهى دراسته في تسعينيات القرن الماضي، مشيراً إلى الساعات التي كان يقضيها في صياغة رسالة غزل، والمرات التي كان ينبغي عليه أن يعيد فيها الصياغة والكتابة من جديد. أما صديقه جواد، فيستطرد بمزاحٍ لا يخلو من مرارة: “إذا ما حالفنا الحظ وأنجزنا الكتابة، كنا نرمي الرسالة بالقرب من الفتاة، وهات تقرأها وهات لأ”. ينغمس الصديقان في حديثٍ طويل قبل أن يتفقا على أن “ذلك الحد الفاصل بين أن تقرأ الفتاة المقصودة رسالتك، وبين أن تقع عن طريق الخطأ بين أيدي شذاذ الآفاق من أصدقائك، ذلك الخوف وتلك الإثارة هي ما يعوزه جيل الشباب الجديد الباحث عن أسرع طريقة للتواصل بغض النظر عما إن كان هذا التواصل حقيقياً أم لا”.
لا يبذل فراس، الذي ولد في دمشق في نهاية الثمانينيات، جهداً كبيراً لتوصيف المسألة، فأكثر ما يولِّد لديه ميلاً نحو الرسائل الورقية هي تلك “العودة نحو الذات” التي يتيحها هذا النوع من التواصل: “فأن تعود إلى الرسائل التي كتبتها وعادت إليك، أو تلك الرسائل التي كتبتها ولم ترسلها، تدرك حجم التغيرات التي طرأت على شخصيتك وطريقة تعبيرك، وكذلك شخصيات الآخرين وطرق تعبيرهم… أنا لا أنكر أن ذلك لا يزال ممكناً اليوم في ظل وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه أكثر صعوبة. لنفكر في الأمر على النحو التالي: أيهما يثير فيك المشاعر على تنوعها، كلمات أغنية مكتوبة بخط يدك أرسلتها في زمنٍ ما إلى إحداهن، أم مجرد رابط إلكتروني قمت بنسخه؟”، ويتساءل مضيفاً: “لماذا رغم كل التطور الجاري في أوروبا لا تزال خدمة البريد الورقي تعمل على أحسن وجه؟ أما نحن الذين لا نزال نحتاجها كثيراً قد تخلينا عنها بشكل كامل تقريباً؟ لا ينبغي للتطور التكنولوجي أن يشكّل حاجزاً أمام التواصل المباشر، فهذا التطور أحدثه الإنسان ليختصر على نفسه بعض أوجه العناء، لا ليقطع من خلاله علاقته مع الإنسان الآخر”.
وفي اتصالٍ هاتفي، يرفض عمر، العامل في إحدى شركات الشحن المعروفة داخل البلاد، تحميل المسؤولية للتطور التكنولوجي وحده، مؤكداً: “إننا نقوم بعمليات شحن الرسائل البريدية مقابل مبالغ زهيدة، فعلى سبيل المثال، يمكنك إرسال مظروف بريدي من دمشق إلى دير الزور مقابل 700 ليرة سورية (قرابة دولار ونصف)، ومن دمشق إلى حلب مقابل 600 ليرة. فهل هذه المبالغ كبيرة؟ كلا، لكن المشكلة هي أن عاداتنا الاجتماعية قد تغيرت، وما كان صالحاً في الأمس لم يعد صالحاً اليوم”، مؤكداً أن ثمة بعض الزبائن الذين لا يزالون يطلبون إرسال المظاريف البريدية، “لكنهم قلة قليلة جداً، وهم غالباً من كبار السن، وبصراحة… نطلق عليهم تسمية “الزبون المعت” للتندر فيما بيننا”.
في المقابل، تؤكد الشابة مرح قناية (22 عاماً) إن التكلفة الزهيدة لإرسال رسالة ورقية ليست كافية للتشجيع على استخدام الرسائل الورقية، فالمدة الزمنية التي يستغرقها التواصل مع المكتب والتوصيل إلى المستلم تجعل من العملية معقدة وطويلة، بينما ترى زميلتها الأكبر منها في كلية الهندسة المعمارية بدمشق، يمنى بدور، إن “الاعتياد على التواصل الإلكتروني دائماً ما يخلق مشكلة ضياع المحتوى، فأنا مثلاً ورغم إلمامي اليسير بالتقنيات الحديثة، إلا أنني لا أستطيع الوصول إلى ذكريات الرسائل خلال علاقاتي السابقة، فقد ضاعت نتيجة أخطاء هنا وهناك. أما صندوق ذكرياتي الذي يحتوي رسائل وأوراق ترتبط بفترة مراهقتي، فما يزال موجوداً حتى الآن… أحياناً أتساءل: هل سيستبدل الجيل الجديد صناديق الذكريات بأقراص صلبة (الهاردات) استبدالاً تاماً؟”.
*العنوان مقتبس من المسلسل السوري “ضيعة ضايعة”.