في العام التاسع للأزمة السوريّة بات الشهر الثالث يشكل فوبيا العسكريّة لما يحمله من مخاوف تطال غالبيّة الشباب الذكور غير الوحيدين، حيث يعتبر التاريخ الرسمي لانتهاء تأجيل الخدمة العسكرية لمن لم تسنح لهم الفرصة بإتمام دراستهم، أو ممن أتموها ووجب عليهم أداء الواجب الوطني، والتي انعكست نتائجه على مختلف الجوانب كالعلاقات العاطفيّة.
“دفتر العسكريّة” لم يتدخل وحده في حياتهم، فالوضع الاقتصاديّ وانتشار الاحتمالات الواسعة على مواقع التواصل الاجتماعي؛ جميعها دفعت العلاقات العاطفيّة لاتخاذ حيّزٍ آخر يختلف عمّا عاصره جيل الثمانينيّات وما قبله، لتشهد مرحلة التطوّر العاطفيّ جانباً آخر يختلف عمّا قيل عنه في الكتب والأفلام، ولكن بقي “التأجيل العسكريّ” الحاكم الأكبر على مختلف الأشكال العاطفيّة الجديدة من العلاقات، لندخل في مرحلةٍ جديدة سأدعوها ب ” التأجيل العاطفيّ”.
وفي هذا الحيّز التقيت أحمد؛ الشاب العشرينيّ الذي استنفذ سنوات دراسته في كليّة الهندسة البحريّة، يجلس مرتاحاً ويتحدّث مازحاً عن والدته التي اكتفت بوجوده كذكرٍ وحيد في العائلة، الأمر الذي يراه كوسام تلمحه في عيونه عندما يتحدّث أمام محيطه، على عكس صديقه الذي احتاج لاقتراض مبلغ كبير يسافر به هرباً من “الخدمة الإلزاميّة” التي تلاحقه مخاوف الانتساب لها منذ بداية الأزمة حسب قوله، ولكن أحمد الشاب “المرتاح” لا يرى العلاقة العاطفيّة أولويّة في حياته على الرغم من وجودها، ولكن بنفس الوقت يرى نهايتها عند سفره، ويضيف: ” إذا كنت وحيداً فهذا لا يعني أن أبقى في البلد، فالهرب إحساس يطالنا جميعاً”.
لا يملك الشباب اليوم الطاقة العاطفيّة لتعبئة خزّان مشاعر الطرف الآخر، الهموم التي حملتها الأعمارٍ الصغيرة كانت أكبر من أيّ ابتسامةٍ أنثويّة قد تلمس الرغبات، فعندما كان الشاب يرتّب كيفيّة سفره قبل انتهاء تأجيله؛ كانت الفتاة ترتّب مظهرها لتلتقط رحيق ما قد يروي داخلها، وكأنّ هذا الأمل البغيض يشبه “حساء الحجارة”.
“لا يوجد أمل ولكنّني محكومةً به” هذا ما قالته لي نايا عن علاقتها العاطفيّة السابقة حين اضطر صديقها للسفر بعد انتهاء تأجيله منذ سنتين، وتضيف: “لقد رتبنا كلّ شيء قبل سفره بما يخصّ علاقتنا، كنت سألحقه ونعمل معاً في ألمانيا، ولكن يبدو أنّ الشباب السوريّ لاحقته الأزمة العاطفيّة حتى في الخارج، والمصائب النفسيّة كان لها علاقة بالمكان الذي نعيش فيه اليوم، ونتائجها بدأت في الظهور حتى خارج حدودنا”، على عكس نور التي انتظرت خطيبها لسبع سنوات لتستطيع اللحاق به في هذه السنة، وتقول: ” الانتظار كان صعباً بالطبع، ولكن الثقة المتينة هي التي كانت العامل الأقوى في استمرار هذه العلاقة لألحق به في نهاية الطريق”.
المسؤوليّات التي حملها شبابنا اليوم كانت أقوى من سلاسل العواطف الإندروفينيّة، فالدراسة والعمل إضافةً للهموم العائليّة والماديّة؛ كسرت التعلّق العاطفيّ الإنسانيّ، فبالنسبة لعلي: “مستنفذ في كليّة العلوم – 25 سنة ” كان اليأس هو المسيطر الأكبر على علاقته الحاليّة، والتي يعمل على إنهائها قبل سفره في نهاية الشهر الحاليّ، ويضيف” “كان قرار سفري مفاجئاً، وهذا ما دفعني للتفكير بإنهاء هذه العلاقة التي لن تضيف شيئاً لي سوى الضغط الزائد والذي لا أرغبه للطرف الآخر، فاليوم لا يسعنا سوى التفكير بأنفسنا، هي تلك الأنانيّة التي دفعنا لها الوضع الحاليّ”.
ماذا بعد؟ يبدو أنّ المسافات البعيدة هي مصير السوريّ اليوم، بعيدٌ عن المجتمع، عن العاطفة، الدراسة، النقود، العمل، وعمّا يربطه بالبلد، وبقي الأقرب هو ذاته؛ التي حاول ومازال لإنقاذها من القاع الذي يبلعنا ويبلع عشرينياتنا معها.