كنت كُلفت قبل أشهر بكتابة تحقيق عن ظاهرة التحرش، ومثل الكثير من الصحفيين أواجه أحياناً مشقةً في إيجاد مداخل جديدة أعالج فيها قضايا اجتماعية كثر الحديث عنها حتى بدت مكرورة. كنت تجاهلت الأمر تماماً حتى سمعت وقع أقدامه ورائي.
كنا أنا وصديقتي عائدتين إلى منزلنا مساءً، بالقرب من مشروع دمر في دمشق. لسببٍ أو آخر التفتت إلى الخلف لأجد شاباً عشرينياً يمشي ملاصقاً لنا بحيث يكاد يمسنا. أطلقت صرخة ثم قطعنا الشارع مبتعدتين لكن الشاب قرر اللحاق بنا. بعد مشادات كلامية هاجمني وحاول احتضاني بعد أن أمسكني من شعري. صديقتي بادرت إلى ضربه وإبعاده عني، ليقف ثم ينقض عليها. أتذكر بأن لحظات قد مرّت كنت عاجزة فيها عن الإتيان بأي فعلٍ، خائفة من أن أبعده عنها فيصبح أكثر عنفاً. لكنني فيما بعد استجمعت قواي وهاجمته. لحسن الحظ هبّ شابان لنجدتنا فسارع الشاب إلى الهرب.
السماع عن قصص التحرّش واختباره أمران مختلفان تماماً، فلحظاتٌ قليلة كافية كي تدرك الفتاة ما تحمله تلك التجربة من انتهاك وتهديد، وما تولده من خوفٍ وغضب. لم أنفك في الأيام التي تلت الحادثة أفكر في تلك اللحظات التي شلني فيها الخوف ومنعني من أن أحمي نفسي أو صديقتي كما يجب.
يرى العلماء أن الإنسان أسوة بغيره من الكائنات الحيّة يقوم غريزياً بنوعين من رد الفعل حينما يجد نفسه في مواجهة الخطر: (القتال أو الفرار) (Fight or flight reactions). بالتأكيد تجد الكثير من النساء أنفسهن في حالة صدمة عندما يتم التحرش بهن، وهذا يمنعنهن أحياناً من الدفاع عن أنفسهن. ويتركهن فيما بعد غاضبات من أنهن لم يتصرفن كما يجب. في المقابل قد تسعف بعضهن الجرأة وسرعة البديهة كي يدافعن عن أنفسهن، وأحياناً ما تحمل ردود فعلهن الصدمة للمتحرش الذي لم يكن يتوقع فعلاً مشابهاً.
تقول رهف، (30 عاماً)، بأنها شعرت ذات مرة بأن هناك شاباً يحاول لمسها في الباص، فما كان منها سوى أنها أخرجت فوراً هاتفها المحمول وقامت بإلتقاط صورة له. والشاب الذي ذُعر من سلوك الفتاة؛ بدأ يطلب منها أن تمحو الصورة لكنها رفضت، وأخبرته بأنها ستقوم بالإبلاغ عنه، كما أنها ستعمم صورته على مواقع التواصل الاجتماعي بعد أن ترفقها بكلمة “متحرّش”.
يارا، (31 عاماً)، تخبرنا بأنها استشعرت ذات مرة شاباً يلاحقها وهي تمشي برفقة إحدى قريباتها في منطقة باب توما في دمشق. وبالنظر إلى أن الفتاتين كانتا تعرفان جميع الأحياء والأزقة الفرعية؛ حاولتا تضليل الشاب الذي شعر بالفزع أخيراً وطلب منهن أن تدلانه على طريق الرجوع إلى الساحة.
في المقابل تشاركنا هديل، (28 عاماً)، حادثة حصلت معها بينما كانت برفقة صديقتها في الحميدية. كانت الفتاتان تقفان أمام أحد المحلات حينما شعرت هديل بأن هناك من لمسها بصورة غير لائقة، فما كان منها سوى أن وجهت له ضربة على كتفه وصرخت بصوتٍ عال، صاحب المحل، الذي كانت الفتاتان تقفان أمامه، اندفع راكضاً وراء الشاب. القصة لم تنتهي هنا بل أمست أكثر غرابة، فأصحاب المحلات المجاورة اندفعوا لنجدة جارهم التاجر، في مشهد مطاردة في أزقة المدينة القديمة انتهى بالإمساك بالشاب وضربه أمام محلٍ لبيع الورود بحيث تناثرت بتلات الورد في المكان لتضفي على المشهد مزيداً من السريالية.
الفتيات انتظرن حتى شكرن صاحب المحل، وأخبرنه بأنهن لم يردن الأذى لأحد، لكنه أجاب بدوره أن حوادث كتلك كثيرة الحصول في الحميدية والتصدي للمعتدي من تجار الحي تجعله عبرة للآخرين. للمفارقة، في اللحظة التي حصل فيها الاعتداء كانت هديل تصوّر مقطع فيديو لواجهة المحل، بحيث وثّق المشهد صوت صرختها الأولى لحظة الاعتداء. تقول: “لولا تلك الصرخة التي حفظها التسجيل كنت قد أقول بأن القصة كانت محض خيال”. وتضيف الفتاة بأنها تعتبر نفسها محظوظة لأنها وجدت من يدافع عنها، لكنها تدرك أيضاً بأنه من الصعب التنبؤ بردود فعل المارة في الشارع إزاء حوادث مشابهة. فقد تترك البنت وحيدة، أو يتم تهديدها بانتقام أشد قسوة إن دافعت عن نفسها أو أثارت جلبة.
مقابل المرات التي استطاعت بعض الفتيات الدفاع عن أنفسهن، أو الحوداث التي وجد فيها من يهب لنجدتهن، هناك حكايات كثيرة أشد ألماً لم تحمل نهايات سعيدة أو عادلة، بقيت مخفيّة في زوايا مظلمة من الذاكرة أو من الأزقة التي حصلت فيها.
يقال أن رد الفعل غريزي، أي لا يمكن التحكم به، وذلك أمرٌ صحيحٌ إلى حدٍ بعيد، لكن ذلك لا يعني بأن الفتيات لا يستطعن الاستعداد نفسياً واتخاذ قرارٍ بالمحاربة بدلاً من الفرار. ولا نعني بالمحاربة هنا الأفعال العنيفة وحدها، بل أي شكل من أشكال التصدي، قد يكون الصراخ فعل تحدي، أو إيقاف الباص وإجبار المتحرّش على النزول منه على مرأى من الآخرين. قد يكون إلتقاط صورة أو ببساطة كتابة مقال جديد عن التحرّش حتى وإن بدا مكروراً.