المكان: حديقة السبيل- حلب
بداية ندخل إلى حديقة السبيل من بوابتها الخلفية، لنصل إلى مفترق طرق، “وهلأ لوين”؟ في عملية شاقة للبحث عن مكان لا وجود فيه لعيونٍ تنهشنا. نمشي باتجاه المقعد، نتعرض تباعاً إلى التحرّش اللفظي من قبل شبّان يعتبرون ذلك بطولة رجولية.
يأتينا تجمّع آخر، يترك جميع المقاعد الفارغة، ويقرر الجلوس على المقعد المقابل لنا. لا مشكلة في ذلك، فالحديقة مكان عام ولكلّ أن يختار مكان جلوسه، لكن المعضلة تكمن في النظرات التي تعتبرنا شاشة سينمائية.
“روحوا عند هدول البنات” سمعتهم ميرنا، وهي شابّة في الثانية والعشرين؛ مافيات الحدائق تلاحق النساء، وتطلب المال منهن وتنهش الأغراض عنوة، الأمر الذي يصبح مريباً حين تدرك أن أعضاءها في سن المدارس وتصرفاتهم مؤدلجة من قبل مافيات أكبر سناً، وقد قُبض عليهم مراراً دون جدوى. تضيف ميرنا: “أنا وقت بروح على الحديقة بحس بتوتر وخطر، وبحس إنّي بدي أرجع على البيت بأقرب وقت”
وهنا، لا زلنا نتحدث عن حدائق معتدلة اجتماعياً، ولم نتطرق إلى الحدائق الأكثر تطرفاً، كحديقة المارتيني، التي أصبحت نقطة خطر على النساء والأطفال، لتكرار الحوادث المشينة كالاغتصاب والتحرّش.
مضايقات من نوع آخر
تقول نتاشا (اسم مستعار)، وهي شابّة في الثلاينيات، أن الحديقة كانت خاليةً من أي امرأة تتجرأ على ممارسة الرياضة، وكانت هي أولى الفتيات اللاتي قمن بالمبادرة. أصرّت على حرّيتها متجاهلة التعليقات المسيئة، ونتيجةً لذلك، بدأ عدد من النساء اللواتي يمارسن الرياضة في الحديقة يزداد، لتقل الانتهاكات عبر جعل الرياضة النسائية ظاهرة طبيعية.
في إحدى المرّات، اقترب منها متحرشون أثناء تمارينها، لكن عامل النظافة قام بطردهم. “هنالك دائماً من يحمي النساء، كأهل الحديقة والإداريين وعمال النظافة، الذين يألفون روّاد الحديقة، ويرفضون التحرّش، بل ومستعدين للدفاع عن النساء عند وقوع موقف مشابه”
استخلصت نتاشا أيضاً أنّ اللوم في مواقف التحرّش لا يقع دائماً على المتحرّش، وأن العديد من النساء ترتدن الحديقة وتقمن باستدراج الرجال، حتى أنها لاحظت مواقفاً كان الرجل فيها ضحيةً للتحرّش من قبل الفتيات.
“أول ما نزلت كان مرتادي الحديقة يستغربوا مني لبين ما تعوّدوا عليي، في أحلى من إنو ناس ما بتعرفيهن يقلولك صباح الخير؟ في كتير ناس تعرّفت عليهن هون، أكيد ما صاروا إخواتي، بس بكفي هالكلمة” تنتهي ناتاشا من رحلتها الرياضية “الإيجابية” مع الحدائق، وتعود أدراجها.
ماذا عن وجهة نظر الرجال، وهل يتعرضون لمواقف مماثلة؟
قد يكون الرجال أقل عرضة للمضايقات، لكنهم ليسوا بناجين. يصف فارس، وهو شاب عشريني، الواقعة الأكثر تأثيراً في نفسه والتي حدثت أثناء تمارينه اليومية، حيث جلس أمامه رجل مجهول وبدأ بمداعبة أعضائه، وهو ما دفع فارس للتوقف عن زيارة الحدائق لمدة طويلة.
تطرّق فارس أيضاً إلى مسألة الحمّامات العامة في الحدائق، والتي تكون حسب تجربته منزوعة الأبواب في القسم المخصص للرجال، ما يسهّل الانتهاكات من قبل الوافدين.
هل من حلول؟
تعتبر ميرنا المشكلة في تفاقم ٍبدلاً من الزوال، لأنها مشكلة ثقافية سببها الجهل بخصوص مواضيع المرأة، وتقترح تخصيص دوريات في الحدائق، مسؤوليتها تطبيق الأنظمة الأخلاقية لملاحقة المتحرّشين وفرض العقوبات عليهم، بدل مراقبة “العشّاق” في أماكن قد تكون ملاصقة للحديقة.
تتفق نتاشا مع ميرنا، وتصرّ على أن التوعية في المدارس جزء أساسي من عملية حد ظواهر التحرّش، فبالنسبة لها أغلب المتحرّشين هم شبّان بين الـ١٣- ١٨ عاماً، فكيف لظاهرة كهذه الانتشار لدى تلك الأعمار دون رقابة المدارس التي من مهامها “التربية” قبل التعليم؟ كما وتشجّع نتاشا على ضرب المتحرشين وسط الحديقة، لأن ذلك بالنسبة لها رادع للمتحرش.
حملات التوعية باتت ضرورة حتمية، رغم أن تلك التي تدعو للحفاظ على النظافة مثلاً، لو كان لها لساناً لقالت: “لا تندهي ما في حدا”، راجين من حملات حد التحرّش على اختلافها أن تقول لنا يوماً: “مبلا، في حدا.”