نادراً ما تخلو جدران مدينة طرطوس الساحلية من عبارات العشق والغرام، إلا أن للحرب أثراً في تغيير نمط هذه العبارات، لتصبح الجدران مرآة واقعية تعبّر عما يمر به المجتمع، وما يميز هذه العبارات هو نكهتها الهزلية. وربما كان أولها طول مدة الخدمة العسكرية.
شرارة الحب كانت البداية التي انطلق منها “أدب الشوارع” في العالم، ليدخل بعدها في عدة مجالات اجتماعية سياسية ثقافية وحتى رياضية. وما مرت به سوريا من ظروف كان له أثر كبير في دفع المجتمع نحو التعبير عن نفسه، فقام بتدوين وتوثيق أبسط المواقف التي يعيشها يومياً، فمن منا لم يعاني من مشكلة انقطاع التيار الكهربائي؟
من الصعب أن نطلق على الكتابات المنتشرة في طرطوس اسم “أدب الشوارع”، بسبب عشوائيتها وانعدام جماليتها، وخلوها من الفن، فهي أقرب إلى مجرد خربشات على جدران. رغم ذلك إلا أنه لا يمكن إنكارها وتجاهلها والمرور بجانبها دون رصدها. خاصة أنها اخذت طابعاً جمعياً، فهذه العبارات لا تتكلم عن حال شخص بمفرده، بل أصبحت تتكلم عن حالنا جميعاً عندما عكست ظروفاً عاشها مجتمع بأكمله.
البساطة والعامية والاختصار ما يميز هذه الكتابات. فهي لا تخضع لسلطة الإعلام ولا تحتاج لتعديل المحررين، فما هي إلا بوح علني يراد منها لفت انتباه أو إيصال رسالة ما أو فكرة في غاية البساطة خطرت في بال عابر فكتبها. يقول الروائي والكاتب إدوارد غاليانو: “الجدران: دور نشر الفقراء. يا للروعة”.
هذه الحركة العفوية، التي انتشرت في طرطوس خلال السنوات السبع الأخيرة والتي قام بها أفراد من المجتمع لتدوين وتوثيق لحظات من واقعهم المعيشي؛ لم تكن وحيدة، بل ترافقت وتزامنت معها حركة أكثر تنظيماً وفناً. فكانت الجدارية التي اعتمدت عليها الجمعيات والفرق الأهلية لمخاطبة المجتمع الأهلي.
“الجداريات هي الطريقة الأسرع والأفضل لإيصال الفكرة” هذا ما عبر عنه رام أسعد، أحد متطوعي حركة البناء الوطني في طرطوس، الذين قاموا بالتعاون مع الفريق الفيروزي، برسم جدارية قبالة طرطوس القديمة، كان الهدف منها نشر التعايش المجتمعي، والسلم الأهلي، معتمدين على تمايز الألوان في جدارياتهم كرسائل غير مباشرة وأخرى رسائل مباشرة.
بينما كان الاستقطاب البصري من أهم الأدوات التي عملت عليها جمعية فضا للتنمية المجتمعية للفت الانتباه الى الأحياء المهملة ضمن المدينة، فكانت الجداريات وسيلة لجذب الاهتمام بها من قبل البلدية من جهة، والمجتمع المحلي من جهة أخرى، لتشجيعهم على الاهتمام بالبيئة التي يعيشون فيها ونشر فكرة المسؤولية التشاركية من خلال إعادة تأهيل المنطقة.
بعض الجداريات عملت على نشر رسائل جمالية ضمن المدينة. وهذا ما دفع فريق الدراجات الرياضي في طرطوس لاعتماد الجداريات كطريقة لزيادة الاهتمام بمدينة طرطوس باعتبارها مدينة سياحية. فعملوا على نشر المتعة البصرية، وإزالة الكتابات العشوائية المنتشرة، وبلغ تعداد المشتركين في رسم جدارية واحدة خمسين متطوع.
تتحدى الجداريات رطوبة الطقس الساحلي. فلا تمل الفرق الأهلية من إعادة تلوينها ورسمها من جديد، إلا أن التحدي الأكبر يتمثل “بالرجل البخاخ” الذي يعيد تشكيل ما لا يعجبه إلا أنه يبقي ويحافظ على ما يلامس واقعه، وأحلامه. فليست الجدران سوى “جريدة المجتمع”.