ضجّت مدينة طرطوس عام 2014 بمشكلة حصلت بين موظفيّ المركز الثقافي العربي و فرقة الروك أثناء عرضها، فعندما نزل الحضور إلى خشبة العرض يهزّون رؤوسهم كنوع من التناغم مع الموسيقى الصاخبة، قام الموظفون بإيقاف أجهزة الصوت وكاد يتوقّف العرض لولا جهود البعض لتهدئة الوضع ومتابعة ما تبقى، لكن هذا اليوم عُدَّ حدّاً فاصلاً لكثير من الموسيقيين في المدينة، خاصّة أنّ تأثير الحرب، الذي يعدّ البطل الأوّل في جميع سيناريوهات حياتنا كان كبيراً، وسفر أغلبيّة الشباب من طلاب و فنانين وموسيقيين شكّل فجوة أمام القيام بمشاريع على المستوى الفردي أقلّه.
غالباً ما يُلاحظ قاطنو طرطوس الروتين الذي تعوّدت عليه المدينة، فلا حفلات سوى الشعبيّة منها، ولا معارض فنيّة تُذكر، إلا بعض المشاريع الصغيرة التي تُنشر من حينٍ لآخر على شبكات التواصل الاجتماعي.
“تراجع الموسيقى في هذه المدينة يلي لساتا ضيعة؛ أسبابه كثيرة تتعلّق ببعضها ” حسب تعبير آدم عازف بيانو (30 عاماً)، “فإذا حاولنا كموسيقيين العمل على مشروع يخصّنا؛ لا نجد آلاتنا وأنماطنا متوافقة مع بعضها”.
وعلى سبيل المحاولات؛ لم ييأس آدم في البداية، لكن المحدوديّة في الحياة “بتخلّي أغلبيّة الموسيقيين يكونوا ضحلين بالموسيقى”، ومحاولاته بالتدرب مع آخرين جعلته يتوقّف عن الأعمال الجماعيّة، فقلّة المعرفة غالباً ما تفتح له خيار التقوقع وعدم القدرة على الاستمرار. ويشير إلى أنّ انعدام الرؤية الموحّدة للعمل جعلت المشاريع المشتركة تتوقّف، فسياقها المنطقيّ لم يكتمل بعد حسب وصفه، وهذا ما قد يبيّن لنا سبب الاختلاف بين دمشق العاصمة و طرطوس، ويضيف “في الشام الوضع أفضل، فتراكم التجارب نتيجة كثرة الاحتمالات، وتواجد المعهد العالي للموسيقى، جعل من دمشق مدينة أكثر تنوّعاً موسيقيّاً وفنياً بشكل عام، وهذا ما قدّم للموسيقييّن هناك الكثير من احتمالات العمل بآلاتهم مقابل مبالغ لا بأس بها، الأمر الذي يشجع الموسيقي ليطور عمله!”.
في مقابل العروض التي حصلت قبل الحرب وبعدها في دمشق؛ تُعد طرطوس مستثناة من أنشطة ثقافيّة تُذكر سوى بعض العروض كـ”مهرجان سوريا شباب” عام 2008 الذي قدّم عروضاً لفنانين أتوا من مناطق متفرّقة في سوريا، و فرقة “التخت الشرقي” لمركز التأهيل الموسيقيّ الخاص والوحيد في طرطوس.
قلّة احتمالات الموسيقى أجبرت إيهاب (25 عاماً)، عازف الـ”bass – double bass” الذي ترك كليّة الموسيقى في حمص بسبب الأحداث، على المشاركة في عدد من الحفلات الشعبيّة، لكن المقابل الماديّ والمعنويّ للعمل جعله يتوقّف، و يتابع مسيرته ضمن حدودٍ ضيّقة، يقول: “في مدينتنا ينعدم تقريباً الأساس الموسيقيّ، فلا جامعة ولا معاهد ولا حتى مجتمع يهتم بالأنماط التي نعزفها، فالمَخرج الفرديّ هو المَخرج الوحيد لكلّ عازف”. يضيف أنّ “نقص عازفيّ الـbass المتمكنين في المدينة؛ كان سبباً مباشراً لعدم إمكانيّة تبادل الخبرات مع آخرين، فاحتكاك الموسيقيّين مع بعضهم يعدّ نقطة هامّة تساهم في التطوّر على المستوى الشخصيّ أولاً، و على المستوى المجتمعي ثانياً.
قام إيهاب بجمع بعض الأفراد محاولاً خلق فرقة استثنائيّة في المدينة، لكن الأغلبيّة تهرّبت، إيهاب ما يزال حتّى اليوم يُفائل نفسه بأنّها فترة ستمرّ، ويختتم: “متفائل بالجيل الجديد والطلاب يلي عم تتعلم موسيقى، لكن أحياناً بفكر أنو نحنا بعمرنا ما منصير إذا ضلينا عايشين هون”.
هل المجتمع مهتم حقيقةً بالموسيقى؟. يرى سامي (24 عاماً) أحد المهتمين بوضع الموسيقى في المدينة الساحلية، أنّ الناس هنا يرغبون بالبساطة وبموسيقى تبعدهم عن التفكير بما يحدث من حولهم، “فالمواضيع نفسها دائماً، العشق والغرام، وتربية الأجيال على هيك موسيقى عم تخليا تتورّث لأولادن، نحنا كشعب مانو فاضي ليتطوّر موسيقيّاً، الموسيقى ما أخدت حقا بحياتنا، وكلنا مقصرين بحق حالنا بالموسيقى”.
تعبر حقائب الآلات الموسيقيّة شوارع المدينة التي باتت اليوم جزءً من “الستايل”، أو ديكوراً لمطاعم أو مقاهي تحمل اسمها لا أكثر، في حين ضاق الأفق في وجه كثيرين أُنهكت طاقاتهم وآمالهم بهذه الفترة التي ستأتي.. ربّما ستأتي، لكن الانتظار أغلقَ حقائب الآلات، وفَتحَ أبواب الطائرات.