جميع الأسماء الواردة في المادة التالية هي مُستعارة بناء على طلب أصحابها
تُخرِجُ فدوى حذاءها الأحمر ذا الكعب العالي من كيس أسود وضعته في حقيبتها، وتبدأ بتزيين وجهها قُبالة مرآة صغيرة في منطقة القشلة وسط باب شرقي، قبيل أن تدخل إلى أحد البارات الذي يستعدّ للتو للبدء بحفلته الصاخبة.
تقول ساخرة وهي تضع الكحل في عينيها: “سأعيدُ كلّ شيء إلى ما كان عليه بعد انتهاء الحفلة، الحذاء إلى كيسه، ووجهي إلى صورته القديمة بدون مكياج”. أخفت فدوى عن والديها أنها في “سهرة”، وأخبرتهم أنها “نائمة عند صديقتها” كي “تنجو بفعلتها” من “عقوبة حتميّة”.
أكملت فدوى عامها الثالث والعشرين، وهي على أبواب التخرّج من كلية الفنون الجميلة، لكن ابنة مدينة درعا، تخشى من ردّة فعل والدها وإخوتها إذا علموا أنها “تسهر”، فهذه الكلمة في عائلتها المُحافظة قد تودي بها إلى “جريمة شرف”.
اعتادت الفتاة التي وشمت فخذها “خلسة أيضاً” على تلفيق الحجج كي تتمكن من “ارتكاب سهرتها” وتقول بثقة: “لست صغيرة، ولا أرتكبُ أي خطأ إذا روّحت بعض الشيء عن نفسي بقليل من الغناء والرقص (..) وجهي بدون مكياج هو القناع الذي لا أحبّه، ووجهي مع المكياج هو الصورة التي أحبّها”.
تمتنعُ فدوى بطبيعة الحال عن التصريح باسمها الحقيقي، وترفض التقاط أي صورة داخل البار، خشية أن يراها أحد أقاربها، أو ينقلها أحد أصدقائها لذويها، وتقول الفتاة العشرينية: “لا أشبه نفسي الآن.. أريد أن أكون كما أنا، أشعر بأنني في غربة مع عائلتي وفي منزلي”.
إخفاء وليس خوف
منذ ثماني سنوات، أنشأ شيركو حساباً إضافياً على فيسبوك، وبدأ بنشر آراء ومقالات سياسية معارضة للتيار الذي يؤيده أهله القاطنين في حارة الكيكية بمنطقة ركن الدين.
ينحدرُ شيركو (28 سنة) من عائلة كُرديّة اتخذت موقفاً واضحاً ممّا يجري في سوريا، لكنّه اضطرّ لإنشاء صفحة أخرى، تحمل اسمه بحروف انكليزية، وحظر كل عائلته وجيرانه، وأضاف أصدقاء آخرين، يقول شيركو وهو يعمل في كهرباء السيارات “والدي ليس فخوراً بي، لكنّي فخورٌ بنفسي (..) أحترمه كثيراً ولا أخشاه، ولأجل ذلك أخفي آرائي السياسية عنه”.
يتأكّد شيركو عدّة مرات حين يريد أن ينشر رأياً معيّناً على أي صفحة سينشره، ويخشى من الخطأ سهواً أن يرفع صورة ما على الحساب الآخر “فتحدث المصيبة”.
تسلّط الآباء
قبل الحرب بسنوات، مضت سحر بعلاقتها الجنسية الأولى مع أحد أصدقائها في الجامعة، “كانت علاقة كاملة، ولستُ نادمة على ذلك”، تقول خريجة العلوم السياسية.
تحتفلُ سحر بعد شهرين بذكرى ميلادها الثامنة والثلاثين، رغم ذلك لاتزال تُخفي علاقتها الأولى، وعلاقاتها المتلاحقة عن ذويها، وتقول: “أشعرُ بالخوف من ان يعرف أهلي، لأن ذلك سيكون مصدراً لمشاكل أعتقد أنني في غنى عنها، تتمثل في عدم تقبل الأهل لفكرة قدرة أبنائهم على رسم مسارات حياتهم بعيداً عن تسلط اعتاد الآباء عليه لاعتقادهم بأنهم أكثر دراية بمصلحة أولادهم”.
تعتبرُ سحر نفسها أنها من جيل “أكثر وعياً”، لكنّها مع ذلك لا تؤمّن بأن المسألة مرتبطة بمرحلة عُمرية وتشرح: “لا أعتقد بأن هذه المشكلة تقتصر على جيل معين دون آخر، فالسبب الأساسي برأيي هو مكانة الأسرة في مجتمعاتنا الشرقية، والتي تجعل من الصعب الانفصال عن هذه الأسرة مهما بلغ الإنسان من العمر والخبرة”.
“الله يراه”
تطلبُ رائدة من ابنها نجم (12 عاماً)، وابنتها بيان (16 عاماً)، ترك هواتفهم المحمولة داخل المنزل أثناء ذهابهم إلى المدرسة، وتفتّش بشكل دوري محفوظات الإنترنت “كي تراقب ماذا يشاهدون”.
“أثق بهم لكن أخاف عليهم” تعلّق الأم الأربعينية، وتقول: “هذا زمن العوالم المفتوحة، وإذا تركتُ أبنائي بدون مراقبة، فقد يتورطون هنا أو هناك”.
تجيبُ رائدة على أسئلة نجم المستمرة عن الله وعن الجنس وعن المجرّدات مثل المستقبل والحرب والملائكة، لكنها تخشى أكثر على ابنتها المنزوية على نفسها ساعات طويلة في غرفتها وتقول “أتمنى أن تصارحني وأصارحها، وأن نتحدث في كل شيء، لكن أدري أن الأمور ستفلتُ من يدي يوماً ما، لذلك أسعى لتأسيسهم بشكل صحيح كي يواجهوا الحياة بأنفسهم، وأذكّرهم دائماّ بأن الله يراهم”.
هروب أو ردّة فعل
لا يخفي الشباب فقط فكرة العلاقات الجنسية عن ذويهم، وإنما كافة التجارب التي يعتقدون أن الأهل لن يتقبلوها وهي كثيرة مثل الجنس، الدخان، حتى بعض الصداقات مع الجنس الآخر، المثلية، وغيرها..
لكن الحالة المرضية بحسب الأستاذة في جامعة دمشق، سلام قاسم، هي “إما هروب من الواقع المعاش، أو ردّة فعل عليه”، وتشرح المدرسة في قسم علم الاجتماع: “قبل الحرب، كان التفكّك الأسري، والفراغ أو الفضول لدى الشباب، يدفعهم للبحث عن نوافذ جديدة، أما بعد الحرب، فالجميع يهرب باتجاه أي متنفّس يستريح فيه، أعتقد أن نسبة الهروب زادت كثيراً”.
تطرحُ الأستاذة سلام الكثير من الأمثلة التي عايشتها خلال فترات تدريسها، وتقول: “الأجيال لم تؤسّس بشكل صحيح، والخطأ يتراكم منذ الصغر، أعرف شاباً لا يجرؤ على شراء دفتر دون الاتصال بأمّه، وأعرف طالبة متزوّجة منذ عامين بدون علم ذويها”.
تختمُ الأستاذة الثلاثينية عبر الهاتف وتقول: “ليس في الحرب فحسب، بل في الحياة كلّها، الضغط يولّد الانفجار!”.