تشرين الأول 2018، إنها الثامنة صباحاً بتوقيت دمشق، بعد أن مضت أكثر من أربعة أشهر على آخر صاروخ بآخر معركة في جنوبي المدينة، وصمتت بعدها المدافع.
لا تزالُ رؤى صالحاني تجد “هذا الصباح” غريباً، فالشابة التي اعتادت أن تصحو على أصوات الانفجارات، لم تعتد بعد الاستيقاظ على صوت المنبّه، ولا زال صوت إغلاق الباب بالنسبة لها بمثابة انفجار يثير الرعب في نفسها للحظات، قبل أن تستوعب أن ما سمعته ليس إلا “صوتاً عاديّاً”.
تقطنُ رؤى (23 عاماً) في شارع فارس خوري، وتستقلّ حافلتين اثنتين، لكي تصل كلّية العلوم في منطقة البرامكة وسط دمشق، لكن تحتاج أن تمشي بضعة دقائق إلى ساحة العباسيين ريثما تصلُ إلى الحافلة الأولى، تقول رؤى: “لا زالت خطواتي سريعة للغاية، لم أتكيّف بعد مع فكرة أنه بإمكاني المشي بشكل عادي دون خشية قذيفة هاون، تعوّدتُ الخوف، كما تعوّدت الحزن، ليس هنالك سبب لكي أحزن في هذه اللحظة، لكن بكل تأكيد، لا يوجد سبب للفرح أيضاً”.
ورغم أن رؤى تعتبر نفسها من “المحظوظين” الذين لم يخسروا منازلهم خلال الحرب، إلا أنّها خسرت –كما ملايين السوريين- العشرات سواء كان ذلك فقداً أو موتاً أو سفراً!. تختم بصوت خافت: “كلّنا بلا استثناء خسرنا، وكلّنا ضحايا”.
لماذا حصل كلّ ذلك إذن؟
في غرفة صغيرة بحارة اليهود في دمشق القديمة، حوّلت رشا مكان عيشها إلى مرسم صغير تُمارس فيه عملها، السرير ليلاً للنوم، ونهاراً للجلوس، وشارك أغراضُ الرسم طاولة الطعام، بينما يلعبُ كلبٌ صغير في مساحة ضيّقة بين “شبه المطبخ” وباب المنزل.
“هذه حياتي، هذا المكان يُشبهني تماماً بكل عبثيّته” تقول رشا التي ارتسمت دوائر سوداء حول عينيها، وتبدو علامات التعب عميقة في وجهها وجبينها المتّسخ بالألوان.
بصعوبة بالغة، وافقت رشا (29 عاماً) على إجراء اللقاء، مبرّرة أن “الكلام لا ينفع، ولا يُعيد أولئك الذين رحلوا” و”تجلدُ” نفسها كلّ صباح وتقول: “لماذا نجوتُ أنا؟ ولم ينجُ أصدقائي؟ هل أنا أفضل منهم؟”.
ملأت لوحات رشا الجدران وخلف باب الحمّام وعلى الساعة، ويغلبُ عليها “الرمزيّة” الأبيض والأسود. تزيغ عيون رشا بشكل متكرّر، ولا يقف حجر عينها على جسم واحد أكثر من ثانيتين، وتشرح: “أصبت بحزن شديد طيلة السنوات الثمانية، أحتاج لأعوام طويلة كي أتخلّص منه، ولا أعتقد أن الأمر سيحصل، كل ورقة عليها رسمة تشير إلى حادثة معيّنة، كل هذه الأوراق تحكي أحداثاً حزينة”.
تفتحُ رشا باب غرفتها، ليدخل بعض الضوء بعد أن انقطعت الكهرباء للتو، ويتسلل شيء من الهواء ليُسمع صوت الصخب في الحارة المجاورة، تقول رشا أخيراً: “أتذكر كيف أُعلن انتهاء الحرب في دمشق، كان الأمر بمثابة كبسة زر، أو جرّة قلم، بين ليلة وضُحاها، أتذكّر جيّداً كيف كان الأمر بالنسبة إليهم بهذه السهولة، إذا كانت الحرب ستقف يوماً ما، لماذا كان كلّ هذا الموت!”.
“بكرا أحلى؟”
مرّة أخرى، يُخفي كرم درويش (26 عاماً) إشعار عيد ميلاده من على “فايسبوك”، ويُحذّر أصدقاءه المقرّبين من “مفاجأة لا يُحمد عُقباها”.
اتّخذ كرم قراراً بعدم الاحتفال بعيد ميلاده عقب اختفاء شقيقه قبل خمس سنوات، ولا أحد يعلم عنه شيئاً، “كيف لي أن أحتفل أو أفرح أو أطفئ شموع عيد ميلادي، وربّما أخي في هذه اللحظات، يتوجّع جائعاً أو مريضاً أو يشعرُ بالبرد”.
على شاشة هاتفه المحمول، وضع كرم صورته مع أخيه زين الذي يكبره بثماني سنوات، وتلاحقه نظرة عينيه في غرفته وفي كل مكان من منزله المتواضع في مدينة جرمانا حيث يعيش مع أمّه وصور أخيه فقط.
أعترضُ نظرته الحزينة بجملة: “بركي بكون بكرا أحلى”، يعترض جملتي ويقول: “بكرا أحلى بحالة واحدة فقط، هي أن يعود أخي”.
لا مستقبل واضح!
قبل أيام، عاد وجدي من زيارته لمدينة براغ، بعد أن أوفدته السفارة التشيكية إلى هناك في دورة تدريبية. هي المرّة الأولى التي يُسافر فيها وجدي إلى بلد أجنبي منذ بداية الحرب في سوريا، لكنّ ذلك “لم يكن سبباً كافياً ليكون سعيداً “هناك أو هنا”.
يقلّب وجدي بعض الصور القليلة التي التقطها هناك معلّقاً: “أشعرُ بالغصّة على أهلي في دمشق، لا أحد منهم يقدر على السفر والاستمتاع بالأمان والحضارة والتقدّم”.
أخفى الشاب الثلاثيني نبأ سفره عن أصدقائه “لكي لا يشعروا بالحسرة على أنفسهم” ولم ينشر أي صورة على حساباته في وسائل التواصل الاجتماعي، فيما أخبر أهله أن الرحلة كانت “شاقة للغاية، وأن المناطق التي زارها ليست أفضل بكثير عن حالنا”.
التقى وجدي بصديقين سوريين مقيمين في العاصمة التشيكية، ووجد حالهما كحاله، “ما حدا مرتاح يا شريك” يقول وجدي مع ابتسامة خفيفة، ويستدرك: “الحزن رفيقك طالما أنت سوري، مهما كنت، وأينما كنت”.
ينقرُ وجدي بإصبعه على الطاولة بشكل متكرّر، ويهزّ قدميه أثناء الجلوس كحركة باتت لا إرادية، تعبّر عن “توتره المتواصل”، يقول أخيراً: “لا مستقبل واضح، انتهت الحرب، وراحت السكرة، وجاءت الفكرة ماذا بعد؟ لا أتوقّع شخصياً أن تتحسّن الأحوال”.
“عيادتي ممتلئة”
اضطرّ الطبيب النفسي عبد العزيز حجّار لتغيير رقم هاتفه الشخصي مرتين خلال العام الماضي، إثر كثافة الاتصالات من المراجعين والمرضى الذين يرتادون عيادته في حي عكرمة بمدينة حمص، أو أولئك الذين يرغبون بحجز مواعيد مسبقة لديه.
يقول حجّار أن 90% من المرضى الذين يُقبلون على عيادته؛ يعانون من “اضطراب ما بعد الصدمة” |Posttraumatic stress disorder | PTSD، وسُرعان ما يكتشف ذلك من الجلسة الأولى، يوضّح: “عادة ما ينشغلُ الناس في الصراعات بتأمين حاجيّاتها الأساسية من الأمان والغذاء والطعام، وينهمكُ الدماغ بتوفير مبرّرات كافية للبقاء على قيد الحياة، لكن بعد أن تنتهي الصدمة بفترة تتراوح من شهرين إلى سنة، يبدأ الدماغ باستيعاب ما كان يجري خلال فترة الصدمة، وتقوم الذاكرة بعمليّة التداعي”.
تلاحق الكوابيس اثنين من مرضى الدكتور حجّار بشكل مستمر، ويعاني آخرون من “فوبيا الأصوات” أو “رنّة الهاتف” التي تقترنُ عادة بالخبر السيء، ويشرح الطبيب الأربعيني: “الدماغ في مرحلة ما بعد الصدمة يكون حذراً للغاية من الفرح، ويخشى أن يتلوه حزن آخر، أستطيع أن أشبّه الأمر بالصعود إلى قمّة جبل، كلّما كانت القمة عالية، كلما كان الهبوط مهولاً، لذلك يحمي الدماغ نفسه بعوامل عديدة، منها الاستعداد للحزن، أو توقّع السيء كلّما جاءت نوبات فرح مفاجئة، وهذا ما يفسّر البكاء اللاإرادي أو الحزن المفاجئ، في حفلة مثل العرس أو عيد الميلاد، الأمر الذي يرفضه من يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة بشكل كامل”.