“كيف عايشين؟” أسأل نفسي هذا السؤال في اليوم ألف مرة: في كل مرة أتشاجر فيها مع سائق التكسي على أجرة اتفقنا عليها مسبقاً، فنبدأ بسرد مشاكلنا المالية الشهرية، ونتسابق من الأكثر تعاسة، وفي كل مرة أكون في دائرة حكومية حاملة مجموعة من الأوراق، ومحشورة بين أعداد كبيرة من الناس، يشتركون في قصصهم، ووجُوههم المتعبة. أسأله لنفسي في كل مرة، استمع لقصة جديدة من قصص النزوح، وحكايا أولئك الذين فقدوا كل ما يملكون من منزل، وعمل، وعائلة، وجاؤوا لدمشق باحثين عن أمل جديد ليعيشوه!.
“كيف عايشين”؟ هو ذات السؤال، سألتني إياه صديقة مغتربة، وأنا أحدثها عن بعض مما نعانيه هنا، صمتُ قليلاً، وعجزت عن الإجابة، وفي كل مرة يخطر السؤال في بالي؛ تطوف أمام عيني مئات الإجابات، وأعلم أن إجابة واحدة لا تكفي، وأن كل الإجابات حول هذا التساؤل، ما هي إلا استثنائية!. كل قصة، تحتاج لإجابة مختلفة، وكل عائلة، تعيش “بلطف خفي” مختلف.
قبل أربع سنوات، كشفت منظمة الأونروا التابعة للأمام المتحدة في تقرير كان بعنوان ” سوريا: هدر الإنسانية”؛ عن تراجع مستوى التنمية البشرية في البلاد أربعة عقود إلى الوراء؛ لتنتقل فيها سوريا من مجموعة الدول ذات التنمية البشرية المتوسطة قبل الأزمة إلى الدول ذات التنمية البشرية المنخفضة، وبيّن التقرير حينها، أنّ التراجع تركّز بشكل رئيسي على نواح ثلاث هي: الدخل والتعليم والصحة، واعتبر التقرير أنّ معدل الفقر وصل إلى 82.5% مع نهاية العام 2014.
من يقرأ تلك الإحصائيات من بعيد، ربما سيتعقد أننا فعلاً نعيش بالحضيض، وأننا كشعب ربما لن يكون لنا إلا مستقبل بائس، كبؤس تلك التقارير التي تصدر يومياً، ويسأل بعضهم من جديد “كيف عايشين؟”، لتأتي الإجابات على شكل حلول مبتكرة، تفرد بها الشعب السوري، خرجت من قلب الأزمات، وتحل مكان الموت.
كقصة ذاك الخياط الذي اختار أن يبدأ معمله الجديد من داخل سيارة قديمة مستأجرة، رُكنت في إحدى حارات العفيف بدمشق، بعد أن فقد مصنعه في الحرب. لم تكن السيارة التي وُضعت بها أدواته من ماكينة الخياطة، إلى الخيطان الملونة، والقطع المزركشة؛ بحد ذاتها هي ما يميز ذاك السوري، بل قصته التي أوصلته لتلك السيارة، لتكون نواة معمل جديد له ولعائلته.
قصة الخياط تشبه الكثير من الحلول المبتكرة التي جعلت السوريين يستمرون باختراع واكتشاف وسائل ابداعية، ليتوجه الكثيرون مثلا في المدن إلى زراعة الخضار على أسطح المنازل وتربية الدواجن في حدائق البيوت، وقيام بعض المزارعين بإيجاد حلول محلية لنقص الغاز المنزلي الذي يستعمله السوريون كما استطاع بعضهم في السويداء وريف طرطوس توليد الغاز من روث البقر عبر تقنيات هندسية بدائية.
أخبرتني جدتي مرة، أننا نعيش حقاً، في لطف إلهي، الجميع حولنا يعيش كذلك!، وأن المواطن هنا، لم يعد يهتم كيف يعيش، حقاً، لم يعد يكترث بالآلية، بقدر ما يهتم بأنه ما يزال يعيش، ويطعم أولاده، ويبحث دائماً، كل يوم، عن سبل جديدة للعيش.
تلك القصص، هي ما يجب أن يُوضع، ويُدرس، كحلول مبتكرة، جعلت الشعب الذي عانى المر من جميع أطرافه، أن يبدأ من جديد في كل مرة يخسر فيها.