ليست قصة حديثة الولادة؛ بل هي أحلامنا حيث نبنيها منذ بداية مسيرتنا الدراسية والتي تبدأ بالتراجع بعد كل خزي نتعرض له في بلدٍ يخرجُ نظامُ التعليم فيه من لائحة التصنيفات العالمية في عام 2018.
هي المرة الرابعة التي أتقدم فيها للمفاضلة على ماجستير في جامعة دمشق منذ تخرجي؛ رغبة مني في الحصول على دكتوراه في العلاقات الدولية لتقابَل مجدداً بعدم القبول لأن المعيار الوحيد لتقييم استحقاقي لهذا الماجستير هو معدل التخرج؛ بغض النظر عن الخبرات والأهداف والنشاطات المرتبطة بهذا التخصص.
شو جابرك على المّر غير الأمَر
تبدأ رحلة الماجستير للخريجين والخريجات من الجامعات السورية؛ بخوض اختبار اللغات الأجنبية، والذي يعتبر شرط أساسي للتقدم إلى مفاضلة الدراسات العليا. هذا الفحص الذي تصبح فيه معدلات النجاح أقل من المرة السابقة نتيجة لمستوى الأسئلة المرتبط بطريقة تدريسنا اللغات الأجنبية منذ الصغر، بالإضافة إلا أن هذه الفحص هو واحد من الأدوات لتقليل عدد المتقدمين إلى المفاضلة.
ينتقل بعدها الطلاب والطالبات إلى مغامرة التسجيل في المفاضلة، والتي تستغرق أياماً عدة، طوابيرٌ تقف منذ بداية الدوام الرسمي وحتى انتهائه، قد يحالفك الحظ بعمل شبكة الانترنت التي تتوقف غالباً، أو صيانة الطابعة الخاصة بطلب المفاضلة، أو أن تسير أرقام الطوابير وفق الرقم التسلسلي الذي يتجاوز المئات. والمحصلة حرمان الكثير من فرصة التفاضل نظراً لمدةٍ كانت عبارة عن أسبوع فقط في بيئة غير مجهزة لاستيعاب جميع الرغبات.
“هذا البلد لم يعد صالحاً للعيش” يقول عاصم خريج الهندسة القادم من السويداء، والذي يستأجر غرفة في فندق بدمشق منذ أربعة أيام فقط لأنه يريد التسجيل بالماجستير هرباً من تأدية الخدمة العسكرية.
قدَرُ عاصم جعل الموظف المسؤول عن تنظيم الدور في طوابير المتقدمين يلغي التسلسل الحالي في لحظة الاقتراب من رقمه “47”، وإعادة بدء عملية التسجيل للحصول على رقم من جديد ويصبح رقمه “344” في مبنى كلية العلوم. يقول عاصم: “لفهم لماذا حصلت الحرب في هذه البلاد؛ علينا أن ندرك الأسباب التي دفعت بالكثير من شبانه للتطرف؛ منها تحليل بنية المؤسسات العاجزة عن استيعاب المواطن وحقوقه”.
فحص معياري خالً من المعايير
الفحص المعياري واحد أيضا من العقبات، وكشرط لازم للتفاضل على ماجستيرات التأهيل والتخصص. وهو الخطوة الثالثة بعد اجتياز اختبار اللغة والتمكن بصعوبة من التسجيل في المفاضلة.
“فريق الخريجين الأوائل” مبادرة طلابية من خريجي المعهد العالي للتنمية الإدارية، يشرح أحد مؤسسيها “أنها كانت انطلاقاً من تحمل المسؤولية لدينا في تقديم المساعدة قدر المستطاع لاتخاذ القرار الصحيح في التفاضل، ومن ثم المساعدة في آلية دراسة وتجاوز الفحص المعياري.”
هذا العام تم حصر مواعيد الفحوصات المعيارية لأكثر من 12 فرعاً بيومين فقط بشكل غير منسق ومنظم، ما أدى إلى تحديد أكثر من فحص في نفس التوقيت، وبالتالي عدم قدرة الجميع على التقدم للامتحانات التي يرغبون بها.
“كيف لنا أن نعمر بلداً وننهي حرباً، إذا كنا غير قادرين على تنظيم امتحان لمجموعة طلاب يريدون الحصول على العِلم” جملة قالها غسان أثناء انسحابه من القاعة رقم “9” بعد يأسه من محاولة إيجاد مكان يجلس فيه لتقديم هذا الفحص.
القاعة “9” في مبنى الحقوق، كانت مخصصة للطلاب الذين لم يحصلوا على أرقام في لوائح المتقدمين للامتحان، وزاد عدد المتواجدين فيها قبل بدء الامتحان عن 1500 متقدم. مما اضطر إدارة الامتحانات الى إعادة الفحص في اليوم التالي لمن ليس لهم أرقام ومكان في هذه القاعة.
جميع الرغبات مرفوضة
“قديش كان لازم يكون معدلي حتى أحصل على فرصة الماجستير” تبدأ كلامها بهذه الجملة بصوت مخنوق يمكن لسامعه تقدير مدى الخذلان في داخل من يتكلم بعد قراءتها لنتيجة المفاضلة التي اختصرت كل الأحلام بجملة (جميع الرغبات مرفوضة)، حنان خريجة اقتصاد، معدلها 79% تقدمت بمفاضلة تحوي أكثر من 14 رغبة بين تعليم عادي وموازٍ، وفي اختصاصات متنوعة حتى التي ليست قريبة من الرغبة، ولكن المهم الحصول على الماجستير.
تشرح الشابة العشرينية: ” لدي من الإمكانيات والرغبة ما يكفي لتحصيل هذه الشهادة العلمية؛ كما لابد من العمل على تطوير ذاتنا، خصوصاً في المرحلة القادمة عندما يعود إلى سوريا أبناؤها وبناتها ممن يحصلون حالياً على تعليمهم في الخارج، سنكون أمام فرص أقل مقارنة بهم”. تتابع في محاولة لاستعادة الأمل: “معليش يمكن يلي أخد فرصتي هو بحاجتها أكثر مني؛ خصوصي إذا كان شب وبدو الماجستير لحتى يأجل جيش”.
يذكر أن عدد المتقدمين لمفاضلة الدراسات العليا في جامعة دمشق، حسب إحصائيات غير رسمية قام بها فريق تطوعي نظراً لعدم صدورها بشكل رسمي، هو 9297 طالب/ة، رفض منهم في جميع الرغبات 5500 طالب/ة، وعدد المقبولين الكلي 3797 طالب/ة يتوزعون بين تعليم عادي وموازٍ، وفي درجات مختلفة (ماجستير أكاديمي – تأهيل وتخصص – دبلوم).
إذا كانت جامعة دمشق (أعرق جامعة في التاريخ) حسب توصيف مسؤول فيها؛ عاجزة اليوم عن استيعاب أحلام طلبتها في تحصيل علمي طَموح، وإذا كانت جميع محاولات شريحة الشباب السوري في البقاء مرفوضة كما هي رغباتهم في الدراسة؛ فكيف يمكن لهم تعزيز رغبتهم بالبقاء من أجل البناء؟، وإلى متى يمكن لنا الصمود في هذا الاختبار القاسي لعلاقتنا بالوطن؟.