“ماذا تريد أن تُصبح حينما تكبر؟ طبيباً أم مهندساً؟” ربما يكون هذا هو السؤال الذي لاحق معظم الأطفال، مطالباً إياهم باتخاذ قرارات مصيرية حول مستقبلهم، وأطوالهم لم تتجاوز متراً بعد.
يشي هذا السؤال بأن هنالك اعتقاداتٍ خرافية راسخة حول المهن المستقبلية الأكثر تفضيلاً، يتم تناقلها أحياناً من جيل إلى آخر دون الأخذ بعين الاعتبار التغيّرات التي تحصل في سوق العمل، والتطوّرات التي تفرض تخصصات أكثر تعقيداً. من تلك الاعتقادات مثلاً أن الصيادلة يملكون متجراً ضخماً للأدوية يغدق عليهم الكثير من الأموال، أو أن المهندسين لن يعرفوا العطالة عن العمل. فهم وبمجرد تخرجهم سيجدون من يطلب منهم تصميم ناطحة سحاب.
لكن وبالرغم من هذه سواد هذه التوجهات يبقى هناك آباء وأمهات “يغردون خارج السرب”، ويرون بأن الدراسة “رحلة” وعلى أولادهم أن يخوضوها بروح المغامرة. وهذا ربما ما دفع إحدى السيدات للضغط على ابنتها حتى تدرس المحاماة في دمشق بدلاً من اختيار فرع دراسة موجود في مدينتها حمص، لأنها وكما تقول لم ترد أن تفوّت ابنتها على نفسها خبرة الحياة الجامعية في مدينة جديدة. بدوره، يحدثنا السيد حسّان بأنه تجنب خلال تربيته لابنته لارا ممارسة أي نوع من الضغط على قراراتها منذ كانت صغيرة. ولهذا اختارت بمحض إرادتها دراسة الفرع العلمي، لكنها اشترطت منذ الصف العاشر بأنها ستدرس هندسة العمارة وحتى لو سمح لها مجموعها بدراسة الطب أو أي تخصص آخر. ويضيف بأنها الآن تكمل العمل على تحقيق حلمها وتأخذ من أجل ذلك دروساً خاصة في الرسم.
يضيف السيد حسان معترفاً: “بالتأكيد جميع الأهالي يرغبون بأن يكون أطفالهم أحسن أناس في العالم، لكن أنا بالمحصلة أرى أن الجامعة تصقل الشخصية، ويهمني أن تدرس ابنتي مجالاً تحبه وتكون ناجحة فيه، حتى وإن لم يتطلب معدلاً عالياً”.
في المقابل كان لبعض الأهالي الذين حدثناهم آراء ورغبات مسبقة تتعلق بالصورة التي يتخيلونها عن مستقبل أبنائهم. تقول السيدة سلام بإن ابنتها كانت قد اتخذت قراراً قبل صدور نتائج امتحانات الشهادة الثانوية بدراسة التجارة والاقتصاد مثل أختها الكبرى. وعندما صدرت النتائج تبيّن أن مجموع الفتاة يتيح لها دراسة الهندسة، إن هي أعادت تقديم بعض المواد في الدورة التكميلية.
” كنت أحب أن تدرس ابنتي تخصصاً جديداً ومختلفاً” تقول الأم مبررة محاولاتها اقناع إبنتها بدراسة تخصص مختلف، وتضيف أنها بدأت تبحث بنفسها عن تخصصات جديدة قد يكون من الممتع دراستها، ولفت انتباهها اختصاص هندسة الطاقة الذي قد يكون له “مستقبل” كما تقول السيدة سلام، حتى أنها ذهبت إلى المدراسة لمعرفة الخطوات التي يجب على ابنتها اتباعها إن هي قررت إكمال الدورة التكميلية.
لكن محاولات الأم وكما يبدو باءت بالفشل أمام إصرار الفتاة التي ظلت مصممة المضي قدماً في دراسة التجارة والاقتصاد. تقول الأم ضاحكةً بإن ابنتها “شكرتها على جهدها ومساعيها”، لكنها طلبت منها عدم تشويشها لأنها ستبقى عند قرارها.
فيما تقول السيدة جمانة (50 عاماً) مُعلقة على قلقها وصديقاتها على مستقبل أولادهن، أن الأهالي بنظرها “يرون في أطفالهم امتداداً لهم”، ويرغبون بصورة ضمنية “أن يستطيع أولادهم تحقيق ما عجزوا هم عن تحقيقه”. وهذا ما يجعلهم أحياناً يكسون رغباتهم برداء واقعي كالقول بأن هذه المهنة تضمن مستقبلاً جيداً، أو تلك لن تكون جيدة بما يكفي.
ربما ساد لسنوات طويلة توجه يثمّن ضرورة اختيار تخصص علمي واحد والتعمق فيه. أما اليوم، فالمُطلع قليلاً على سوق العمل سوف يدرك أن التوجهات نحو هذا الموضوع تختلف أحياناً. فهناك اليوم تفضيلٌ لدمج أكثر من تخصص واحد، وبهذا المعنى قد يكون هناك توليفات لا نهائية للمهن التي يمكن للمرء أن يمتهنها. فعلى سبيل المثال، هناك من قد يختار امتهان العلاج بالموسيقى، أو اختراع تقنيات تقلل الأخطاء الطبية، أو يوظّف الدمى وقص الحكايا كأدوات في الدعم النفسي، وكل تلك أمثلة على مهن جديدة تستلزم جمع أكثر من تخصص. وتتطلب بصورة أساسية أن يتبع المرء هواه ويتعمق في مجال عمل يحبه بحيث يكتشف إمكاناته وحدوده وخفاياه. ولهذا ربما، قد يكون الأجدى من الأهل تنشئة أطفالهم كي يكونوا شغوفين بما يعملونه، بغض النظر عن المهن التي من الممكن أن يقع عليها اختيارهم، حتى وإن قرروا –لا سمح الله- ألا يكونوا أطباءً.