أفضت الأحداث التي مرّت بها البلاد انقلاباً في التصورات والرؤى الفردية، ولا سيما تلك المرتبطة بالمستقبل وبما يمكن تحقيقه على المستوى الفردي. وليس بعيداً عن هذا الإطار، يعيش اليوم حوالي ربع مليون طالب ثانوي في ذلك الحدّ الفاصل بين ما “كان” وما “سيكون” عليه الحال في المستقبل المنظور. هو سؤال واحدٌ حملناه إلى عددٍ من هؤلاء الطلاب: “ما هو الفرع الذي تحب أن تدخله؟”، فكيف كانت الأجوبة؟
بعد ترددٍ طويل في الإجابة عن السؤال، والكثير من الإجابات التي أعادت تدقيقها، تجيب الطالبة لين عمارة عن سؤالنا بالتالي: “المستقبل الذي تتحدث عنه هو مبهمٌ تماماً بالنسبة لي، وستحدده بالدرجة الأولى نتائج المفاضلة. لو كان بيدي القرار لدخلت فرع الهندسة المدنية، لكن أية مفاجأة ستأتي بها نتائج الامتحانات والمفاضلة سأكون مضطرة لأن أتعامل معها كما هي”، وعن سبب اختيارها للفرع، تؤكد عمارة أن أهلها أقنعوها بأن “لهذا الفرع مستقبل”، ولا سيما أن “البلاد مقبلة على مرحلة إعادة إعمار ستتيح فرصاً واسعة لخريجي هذا القسم”، ذلك فضلاً عن أن “للمهندسين قابلية أعلى للاستفادة من الميزات التي تقدمها النقابة والطلب عليهم أعلى في القطاع الخاص”.
في المقابل، تبدو الصورة أكثر وضوحاً لدى الطالب أنس داوود: :”بالنسبة لي، هنالك معايير كثيرة للفرع الذي سأدخله، وأهمها أن تكون عدد سنوات الدراسة فيه خمس سنوات، ليكون لي إمكانية أكبر لتأجيل الخدمة العسكرية، وأن تكون فرص الدراسات العليا فيه واسعة أيضاً، بما يسمح لي بالسفر خارج البلاد، لأكون قادراً على دفع البدل النقدي”، ويشدد داوود على أن “هذا الخيار ليس موقفاً سياسياً، بل هي رغبتي الخاصة في أن أستفيد من كل السنوات القادمة في التحصيل الأكاديمي والعلمي. هنالك عدد من أفراد العائلة الذين قطعت سنوات الخدمة العسكرية تطورهم الأكاديمي، ولا أريد أن أكون واحداً منهم، فهدفي الأساسي أن أقوم ببناء حياتي بشكلٍ مستقل ومريح مادياً، ولهذا السبب سيكون من الأفضل لو تسمح لي نتائجي أن أدخل فرع الهندسة الميكانيكية والإلكترونية”.
على هذا النحو، يختزل الطالب محمد زيدان كل معاييره بمعيارٍ واحد هو “الفرع الأقل تكلفة للعمل به بعد انتهاء الدراسة”، ويوضّح: “لست من عائلة ميسورة مادياً، ولا قدرة لنا على تحمّل تكاليف فتح عيادة أو مكتب، لذلك أفضّل دخول واحد من الأقسام التي تتيح لي العمل بالتوازي مع الدراسة. لذلك أفضّل فرع الاقتصاد، حتى الآن أرى أنه الفرع الأكثر عملية في هذا الإطار. سأدرس وأعمل وعندما أتخرج يمكنني أن أتوظف في إحدى الشركات أو البنوك، دون الحاجة لأموال طائلة من أجل التجهيزات الأولية لعملٍ خاص”، ويبوح زيدان: “أحد أقاربي درس الاقتصاد وعمل في واحد من البنوك الخاصة الموجودة في سوريا، وأتيحت له فرصاً مريحة جداً سواء على صعيد العمل أو المقابل المادي، أعتقد أن هذا أحد أهم الأسباب التي دفعتني لاختيار هذا الفرع”، ويحسم كلامه: “يعني اشتغل سنتين تلاتة صار عندو سيارة مثلاً!”.
إلى ذلك، رفضت الطالبة ربا الكردي الحديث معنا في البداية، لأن “الكلام عن المستقبل يصيبني بشدٍّ في أعصاب معدتي”، لكن سؤالاً “استفزازياً” عن أن الإناث يتعرضن لقيودٍ أقل في اختيار الفرع المناسب لهنّ نجح في دفعها للكلام، مبررة رفضها له بأن: “كلّ ما حولي يؤكد لي أنه يجب عليّ أن أبحث بكل بساطة عن الفرع الأكثر ربحاً بعد التخرج. فأولاً أنا لستُ من نوع الإناث اللواتي تنتظرن ذكراً يتولى مصروفهن في مرحلة الزواج، وحتى لو كنتُ من هذا النوع، فإن الذكور بمعظمهم لم يعد بمقدورهم لعب هذا الدور. أعتقد أن ضرورة الاستقلال للنساء باتت ملحة أكثر، ولهذا السبب، سأنتظر نتائج المفاضلة الجامعية وسأختار أول فرع متاح لي يساعدني على أن أكون مستقلة مالياً وغير محتاجة لأحد”.
المفارقة أن أحداً من الطلاب الذين قابلناهم لم يتحدث عن “الفرع الذي يحب أن يدخله”، بل في الغالب دارت الأجوبة حول محورٍ واحد “الفرع الأكثر نفعاً بحسابات الربح والخسارة الشخصية”، ورغم كل “الالتفاف” الذي أجريناه على السؤال بهدف دفع الطلاب للإجابة عن السؤال بالتحديد، دائماً كانت الأجوبة تقود للمحور الثاني، محور الحسابات، فهل يحمل ذلك “إفراطاً في الواقعية” من قبل هؤلاء الطلاب، أم أن هذا السلوك هو ردة فعل طبيعية لكل ما تغيّر في المجتمع خلال سنوات الأحداث؟