دخل مسرعاً إلى أحد المقاهي في مدينة طرطوس والتفت بتعجّب، ثمّ عاد ليبحث عنه بين الجالسين، فبعد أن أغلق ابنُه هاتفه منذ يومين؛ نفذ صبره وهمّ بالذهاب لمكان عمله. حين وجده، جلس أمامه ونظر إليه محاولاً إخفاء غضبه أمام الناس، ثمّ قال له بعتب: “هيك صار مستواك؟!”.
محمد خرج من البيت منذ فترة بعد شجار حدث بينه وبين أهله حول رغبتهم في التحاقه بكليّة الصيدلة، فاختيار الموسيقا كدراسة جامعيّة لم تُقنع والده الذي يعمل اليوم كصيدليّ متمرّس ذي مكانة مجتمعيّة محترمة حسب تعبيره، ثمّ أنّ “الشعر الطويل والعزف على (الدرامز) والعمل في مقهى؛ أمر لا يناسب سمعة العائلة التي عُرِفَت بموروثها القديم للعمل في الصيدلة.”
كان غالباً ما يصعب علينا اختيار الفرع الذي نودُّ دراسته جامعيّاً، خاصّةً أنّ النظام التدريسيّ في بلدنا لم ينشأ على توجيه الطفل إلى المجالات التي من الممكن أن يختارها مستقبلاً، إضافةً إلى إلحاح بعض العائلات على ترسيخ أفكارٍ في عقل الطفل تقوم على أن الطبيب مثلاً هو قدوة يُحتذى به و يُطمَح إليه.
الفقر الماديّ والثقافيّ الذي عانى منه أهل الساحل قديماً؛ أجبرهم ربّما على ترسيخ فكرة التعليم وأهميّته في عقول أطفالهم لعيش حياة أفضل وبالأخص في الفروع الطبيّة والهندسيّة، وعلى جانبٍ آخر كان التعليم صورة جميلة ترافق أحاديث بعض العائلات في حفلات العشاء. دانا ( 20 عاماً) اضطرّت للتسجيل من جديد في جامعة خاصّة لدراسة الطب البشريّ بعد رغبة عائلتها الملحّة بإيقاف تسجيلها في كليّة الهندسة المدنيّة الحكوميّة، تقول: “ما كان عندي مشكلة بدراسة الهندسة المدنيّة بس أهلي شافوا أنو دراسة الطب رح يكون مكانة اجتماعية أعلى خاصة انو وضع عائلتي المادي منيح “.
بدأت في سوريا عام 2015 تطبيق خطّة السنة التحضيريّة التي تعتبر خطوة جديدة في القبول الجامعي للدراسة في الكلّيات الطبيّة، حيث لم يعد معدّل الثانويّة العامّة هو المعيار الوحيد لدخول هذه الكليّات، وبناءً على معدّل الطالب بعد اجتيازها؛ يُفاضل على الفرع الطبيّ الذي يستحقّه بحسب القرار الوزاريّ.
حسن (21 عاماً) طالب في كليّة طب الأسنان السنة الثالثة، قبِل الفرع لمزاياه الماديّة مستقبلاً، يتحدّث عن رغبته خلال دراسته الثانويّة العامّة لدخول الطبّ البشريّ، لكن السنة التحضيريّة لم تسمح له سوى بالمفاضلة على طب الأسنان التي لم تعتبر معياراً حقيقيّاً، ليَفرض الفرع نفسه على الطالب بحسب معدّله على حدّ تعبيره.
أمّا علي (22 عاماً) طالب في مدرسة التمريض – طرطوس، يصف التعب الذي صادفه في السنة الدراسيّة الأولى، فرغبة أهله لدخول المدرسة بحجّة التزام الدولة بتوظيف خرّيجيها؛ كان مرهقاً بدايةً، لكن خلال متابعته السنتين المتبقيتين تقبّل الموضوع بكلّ رضى بعدما اكتشف إنسانيّة المهنة حسب قوله.
أمّا من جانب دراسة الآداب يرى عمّار (22 عاماً)، طالب الأدب الانكليزي، أنّ عدم قدرته على التسجيل في كليّة علم النفس أو الفلسفة لتواجدهم فقط في العاصمة دمشق، هو تحدٍّ ليتفوّق حتّى في فرع اللغة، يتابع: “ما كتير متوقع من فرعي يضفلي شي بس قرّرت استخدمو لأختصر خطوتين كانوا ممكن يوجعولي راسي متل تأجيل العسكريّة”.
على عكس سماح (30 عاماً) خرّيجة الأدب الفرنسيّ، اختارت هذا الفرع بناءً على رغبتها، فلغتها الفرنسيّة كانت ممتازة حسب وصفها، لكن الجوّ العام الذي كان يطغى على جامعة طرطوس لم يشجّعها على الدارسة، تضيف: “كانوا كتير قلال الدكاترة يلي حسسوني بقيمة الشي يلي عم أدرسو، وكان اهتمامي منصب على الموسيقا وهاد سبب تأخري بالجامعة لتسع سنين”.
لم تستطع بعض العائلات حتى اليوم التخلّص من مفهوم ” النصائح المفروضة “، ولم نقتنع بأنّ كلّ فرد هو بصمة بحدِّ ذاته، وهذا ينطبق على كافّة الأصعدة، كلّ علاقة بأيّ فرد وبأيّ شيء هي بصمة، وكلّ عقل له تلافيفه الخاصّة، فعندما يبدع والدي في العمليّة الجراحيّة مثلاً ليس مؤكّداً أن أتحمّل مشهد العمليّة بأكملها!.