في الوقت الذي كان فيه كنان المولع بالفنون البصرية، يُذَيِّل دفاتر الثاني والثالث الثانوي باسم “المخرج كنان سليمان” كانت والدته تردد على جيرانها وصديقاتها: “ابني مهندس”.
تماشياً مع رغبة والدته، اختار كنان فرع “هندسة التصميم والانتاج”، هكذا يصبح مهندساً ومخرجاً في نفس الوقت، هذا ما فكر به كنان لحظة تسجيل الرغبة. وفي الساعة الواحدة بعد منتصف الليل يرن هاتف كنان إشعاراً بوصول رسالة مفادها “مبروك قبولك في الهندسة الميكانيكية والكهربائية فرع التصميم والانتاج”.
لم ينم كنان طيلة الليل وهو يحدث نفسه: “شو خصني أنا بالميكانيك والكهربا؟!”. جهل كنان بالاختصاصات وانحسار خياراته برغبات أهله الهندسية، جعلته ينتقي، ودون دراية منه، فرعاً لم يتصور أن يدرسه في حياته. فعقدته في البكلوريا كانت الكهرباء.
لحين صدور نتائج الامتحانات، يعتقد طالب الثالث الثانوي أنه اجتاز أهم صراع في حياته، ويستطيع الآن أن يستريح. هو لا يعلم أن الصراع قد بدأ تواً في معركة عنوانها “ما الفرع الذي سأختاره؟”، أو “ما الفرع الذي سيختاره أهله له”، وذلك تحت أشهَر مقولة تتردد على مسمع كل طالب ثالث ثانوي سوري ” نحنا منعرف مصلحتك اكتر منك”.
“إعلام؟! اسمعوا على قلة الهيبة”
منذ ثماني سنوات، جلست مع أحد زملائي الذي كان يختص جراحة عصبية، ليصل بنا الحديث ويقول: “أن أكون طبيباً، يعني أن يكون لي كلمة في المجتمع”. من ذات المنطلق جابهت والدة عيسى عريضة (18سنة) من مشتى الحلو، ابنها بعد أن أبدى شغفه في دراسة الإعلام فصاحت: “إعلام؟! اسمعوا على قلة الهيبة”.
بدأ شغف عيسى بالإعلام مذ كان في الصف العاشر ليصبح مدوناً يافعاً مع اليونيسف ويحصل على درع “سمّعني صوتك” إضافة إلى عدة مشاركات في موقع “دخلك بتعرف”. ولكن ووفق رغبة والديّ عيسى هنالك خيار واحد فقط.
يقول عيسى: “عائلتي ميسورة الحال، والدي مستعد لإرسالي إلى أميركا لأدرس، لكن الطب فقط. أما إذا أردت دراسة شيء أخر فسوف يقطع عني المصروف. قائلاً لي: :إذا بدك تدرس إعلام، دبر راسك”. ولأن عيسى لم يعتد ان يدبر رأسه؛ دخل الدورة التكميلية ليحسّن مجموعه وإلا فالجامعة الخاصة بفرعها الطبي بانتظاره.
“بدي اشتري حالي بالبلد”
ابراهيم (20 عاماً) والذي يدرس الطب في سنته الثانية، يعد السنوات التي يجب أن يقضيها في الدراسة والاختصاص والخدمة الإلزامية على أصابع يديه العشرة، ثم يقول: “شكلوا رح يضيع شبابي بالطب”. ربما هذا ما دفع أحمد خطاب (19 عاماً) من طرطوس للسفر في البحر بدلا من دراسة الهندسة. أحمد الحاصل على مجموع 222 في الشهادة الثانوية العلمي والتي تعد مهمة ليصبح ضابطاً بحريا يقول: “كنت محتاراً بداية بين الهندسة والبحر، فإخوتي يدرسون الهندسة بينما بقية العائلة كلهم بحارة، كما أنى استبعدت الأكاديمية البحرية لأن طريقها طويل ومكلفة جداً. في النهاية اخترت البحر والسفر الفوري، فمن خلالهما أصبح ضابطا بالخبرة وأتمكن من دفع البدل”. يكمل أحمد: ” بدي اشتري حالي بالبلد”.
48 شهراً سيقضيها أحمد في البحر ليدفع البدل، و36 شهراً ليصبح ضابطاً بحاراً. وهكذا وبعد عدة سنوات سيكون فيها احمد مازال في العشرينات وقد اختصر الطريق دافعاً البدل، ولديه في جيبه ما يساعده ليؤسس حياته الزوجية. بينما ابراهيم سيكون في بداية اختصاصه وفي نفس الوقت متوجسا من الخدمة الإلزامية وفراغ جيبته.
“الخوف الممنهج”
الذي يمارسه الأهل على أبنائهم وخاصة الفتيات لتبرير عدم إرسالهن إلى مدن أخرى لدراسة الفرع الذي يرغبن به. فهل من المعقول أن تتركي حضن الاهل الدافئ في حمص لتدرسي جامعة معلم صف في السويداء؟ والتي كان رغبة كرستين فرح (21 عاما) من حمص.
الحب الأعمى، كما ترغب كرستين بتوصيف خوف أهلها عليها، جعلها تكتفي بـ “معهد صحي في حمص” لتعاود بعد سنتين وتسجل تعليم مفتوح رياض أطفال في طرطوس لتغطي الخيبات التي مرت بها على حد قولها.
وبالمقابل تبرر كرستين لأهلها خيارهم بالقول: “نفس الجو يلي عاشوه بدن يحطونا فيه، الخوف يحكم أهلنا”. هذا مالم تصادق عليه تماماً والدة كرستين فهي تقول: “والد كرستين مغرم بالمعاهد فطريقها مختصر وتنتهي بوظيفة، فقد سبق وأن اختار لشقيقة كرستين معهداً ملتزماً، بدلا من كلية الاقتصاد في حلب”.
وفي السياق ذاته غيرت هبة ابراهيم (18 عاماً) من طرطوس ميولها بعد صدور النتائج وأبدت رغبتها بدراسة العلوم السياسية، بعد ميولها لتصبح معلمة. لكن سرعان ما عادت لرغبتها في التعليم، بعد أن تفاجأت بأن العلوم السياسية موجودة في دمشق. تقول هبة: “صحلي بطرطوس، شوفي داعي اطلع. البابا معي بشو ما بدي بس بطرطوس حتى ولو موازي”. تبرر هبة خيارها بطرطوس وخوف والديها بأنها البنت الوحيدة والبكر على أخوين شابين. وبأن العلوم السياسية كانت مجرد ميل طغى لفترة وجيزة على ميلها الأساسي بأن تكون معلمة. حينها سألت هبة ألا يعد ذلك تفضيل المدينة على الرغبة، فجاوبتني بابتسامة: “إي يمكن”.
جبهة الإنقاذ العائلي متمثلة بخالتي دلال
قد تصل التدخلات والاملاءات درجة يصبح فيها الطالب مشتتاً، ليدخل دائرة الإحباط وباب الغرفة المغلق. كما حصل مع بشرى ناصر (21 عاماً) من السلمية والتي حالت ظروف الحرب وخوف أهلها عليها من دراسة الهندسة الوراثية في حلب. تقول بشرى: “لم أكن أنا من كتب المفاضلة، الذي كتبها أمي والشاب من اتحاد الطلبة، حتى أن والدتي دخلت معي إلى المركز لتضمن عدم تغيير الرغبات”.
آلت نتيجة مفاضلة بشرى إلى معهد تعويضات سنية في دمشق، هذا ما لم يكن مناسباً أيضا لأهلها، فدمشق أيضا بعيدة. ووسط اكتئاب بشرى وفوضى الخيارات التي بدأت تتناقص، كان زملاؤها قد باشروا بدوامهم الجامعي، لتصبح بشرى أقرب الى خسارة شهادتها الثانوية. لكن عرض الخالة دلال قدم حلاً وسطياً جمع بين فرع جيد ومدينة قريبة نسبياً من السلمية، مع تأمين أقساط دراسة بشرى في فرع الصيدلة بجامعة الأندلس. تقول بشرى: “عند ذهابي لأول مرة جلست في المقعد الخلفي للسيارة، وبكيت طوال الطريق بين السلمية وجامعة اللأندلس في القدموس، إلا أنى حاليا سعيدة” ثم تابعت ضاحكة: “الله يخليلنا خالتي دلال”.