يقال الكثير عن حالات التنافس التي يختبرها من يعمل مع زملائه في ذات المهنة، لكن قلما يُحكى عن أشكال التضامن التي يظهرها هؤلاء لبعضهم البعض، أو الأخلاقيات والأعراف التي يحترمها ويطبقها من يعملون في ذات المهن. ربما تكون تلك الهموم الصغيرة، هي التي توحّد هؤلاء، فهم يتشاركون مصطلحات قد تبدو لغة هيروغليفيةً لغيرهم، ويضحكون على نكات لا تُضحك أحداً غيرهم. يفكرون كل يوم بحجم المهام الموكلة إليهم والصعوبات التي تنطوي عليها المهن التي اختاروها طريقاً لهم.
يحدثنا طبيب العيون د. حسام (35 عاماً) بأن الأطباء كثيراً ما ينوبون عن أحد زملائهم ويجرون عمليات جراحية لأحد أفراد أسرته أو أحد المقربين منه. ويبرر د. حسام هذا العرف بالقول إن ذلك يرجع لاحتمال كون الطبيب متوتراً، وهناك أيضاً توجسه من حصول سوء فهم أو ملامة، إذا ما حصلت اختلاطات أو نكسات، حتى وإن كانت ضمن النسبة الطبيعية الوسطية اللي ممكن تحدث عند أي طبيب ماهر. ويضيف د. حسام إن من الأعراف المراعاة في الطب أيضاً ألا يتقاضى الطبيب أجوراً من طبيبٍ آخر عند المعاينة، لأنه بدوره سيمرض يوماً ما ويجد صديقاً يعالجه.
في مهنة التمثيل هناك أيضاً بعض البروتوكولات المُحببة التي تُحدّثنا عنها إحدى المُتخرجات من قسم التمثيل، فتقول: “في البداية نبادر كممثلين إلى متابعة أعمال الزملاء الآخرين وتهنئتهم بنجاحها، وهناك أيضاً لحظات الذهاب إلى خلف الكوليس لحظة إنتهاء الأعمال المسرحية للسلام عليهم. أما في التلفزيون مثلاً، فمن الأعراف المحببة أن يقوم الممثل -وإن حصل على دورٍ في عمل تلفزيوني وحل فيه بديلاً عن ممثلٍ آخر نتيجة وعكة صحية أو ظرف طارئ- أن يجري معه إتصالاً تلفونياً ويطمئن على وضعه أو يبدي أسفاً لما حل به”.
فيما تقول الشابة مي (25 عاماً) المتخرجة من كلية الصيدلة بإن العرف يقضي بأن يبادر الصيدلاني وإن لم يجد لديه كامل الأدوية المذكورة في الوصفة الدوائية، إلى نُصح المريض بالذهاب وشراء الوصفة كاملةً من صيدلية أخرى.
وبالانتقال إلى مهنة المحاماة، تقول المحامية دينا (34 عاماً) بأن بعض الأعراف في مهنتها تحولت إلى قوانين رسمية، ومثال ذلك المادة 101 من النظام الداخلي لنقابة المحامين التي تنص على أن المحامي وحين قبوله الوكالة في قضية سبق أن وكّل فيها زميل له اختلف مع موكله، فعليه في هذه الحالة أن يسعى لأخذ موافقة خطية من هذا الزميل وضمان دفع أتعابه.
فيما يحدثنا التاجر محمد (40 عاماً) عن بعض الأخلاقيات التي لمسها خلال مزاولته لمهنته. فيقول: من الأعراف المحببة لدي أن بعض التجار وإذا ما دخلت إلى دكانهم صباحاً لشراء غرض ما قد يطلبون منك شراءه من أحد جيرانهم الذي (لم يستفتح بعد) أي لم يبع شيئاً ولم يدخل دكانه أي زبون”. ويضيف بأن التجار سابقاً كانوا يكتفون بالكلمة والوعد الشفوي بينهم، وأن دفتر التاجر كان يملك ما يكفي من المصداقية ليُتخذ وثيقةً في المحكمة. يضحك محمد وهو يتخيل نفسه اليوم حاملاً دفتر حساباته لكي يثبت شيئاً ما أمام القضاء.
أما الكُتّاب مثلاً فيعبّرون عن دعمهم لأعمال زملائهم بكتابة تقديمات أو مراجعات لتلك الأعمال، والموسيقيون بدورهم يعيدون تأدية أغاني وألحان زملائهم الذين ماتوا كنوعٍ من إظهار الامتنان والاحترام للعمل الذي قدمهوه.
العمّال والمياومين يمتلكون بدورهم أخلاقياتٍ خاصة بهم، فالطيّان مثلاً وإذا ما دخل إلى شقة قيد الإكساء ووجد بأن طياناً سبقه وقام برش الحيطان “رشة مسمار” يمتنع تماماً عن استلام الورشة حتى يتأكد من أن زميله لا يريد إكمال الأعمال. وهذا الأمر أشبه بعرف لدى جميع العاملين في مهن مشابهة. كما أن دعم زملاء المهنة قد يأخذ أحياناً في المؤسسات والمعامل شكل اعتصامات أو وقفات احتجاج لدعم أحد المظلومين وللمطالبة بشروط عمل أكثر عدلاً للجميع.
يمكن القول في العمق أن المهن وعلى اختلافاتها تحترم مُثلاً وقيماً متشابهة: كالدعوة إلى اقتسام وتشارك الأرزاق، والابتعاد عن التنافس أو التزاحم على الأرباح بشكلٍ رخيص، كما أنها تروّج بصورة أو أخرى لأن يأخذ الشخص بيد من يشاركه مهنته إذا ما أصاب زميله مكروه أو كان عاجزاً عن أداء مهامه. تلك الأعراف الصغيرة هي التي تعطي للمهن روحها.