منذ فترة قريبة، وقعت يداي على مجموعة من السير الشخصية “CV” لشباب قدموا للعمل مع أحد الكيانات المجتمعية، وبدافع الفضول، أخذت بتصفحها، لأتفاجأ، ليس بصغر أعمار هؤلاء الشباب، وإنما بطول سيرتهم الشخصية، التي مُلئت بورشات عمل، وتدريبات مجتمعية، وحتى مشاريع ساهموا بتأسيسها، وما زال أغلبهم في سنته الثانية أو الثالثة من الجامعة، عدت بذاكرتي قليلاً للمرة الأولى التي قمت بها بمحاولة صناعة سيرة شخصية، كان ذلك ربما في سنتي الثالثة بالجامعة عام 2013، دخلت باكتئاب حاد حينها، قيل لي إنه “اكتئاب السي في الأول”، وهو طبيعي!.
كنت أحاول أن أبحث عن الإنجازات التي قمت بها، والأعمال أو التدريبات التي خضتها خلال دراستي في الجامعة، كانت أموراً لا تكاد تذكر، وبالعودة للسير الشخصية لهؤلاء الشباب، كان ما يجمعهم بالكامل، خبرات التطوع، والعمل المجتمعي.
حسناً ليس فرق العمر بيننا بالكبير، هو عام أو عامين أو ثلاثة، لكنها صنعت فرقاً في المجتمع لم نكن نراه من قبل، سواء بشكله الإيجابي أو السلبي، وهو ما يمكنني أن أفسره بظاهرة “المجتمع المدني” الذي أصبح منفذ الشباب لدخول سوق العمل أو بناء خبرات.
ظهر مفهوم “المجتمع المدني” خلال العامين الماضيين كما لم يظهر من قبل في سوريا، متمثلاً بمبادرات ومشاريع تنموية، منوعة، ممولة بالغالب من منظمات دولية.
ولا شك أن الحرب كانت سبباً رئيسياً في تنامي دور المجتمع المدني، إما من جانب إعطاء مساحة له لم نكن نراها من قبل، أو من جانب توافد المنظمات الدولية للعمل في سوريا، وتمويل مشاريع تنموية.
وسيم سخلة، ناشط مجتمعي وصحافي مستقل، يرى أن المجتمع المدني في سورية ليس بظاهرة بل هو ضرورة وحاجة، وأن الحرب غيرت المجتمع بعد أن خلقت فضاءات واسعة لانتشار النشاط المدني، وضوابط مختلفة بحسب جغرافيات السيطرة، كما ظهرت أدوار للمجتمع المدني في الحرب، بعد عقود من الغياب، ورغم أنه بدا مختلطاً وضائعاً ومشتتاً ولكنه أنتج فرصاً ذهبية للانتشار والمساعدة والدعم”.
يقول السخلة: “نحن نعلم أن القانون المستمر منذ أكثر من نصف قرن أصبح غير مناسب، ولكن ماحدث في السنوات الماضية كان فرصة!، لأن أي قانون في مثل هذه الظروف، كما أرى، لن يستطيع إعطاء مساحات كالتي تمكن منها الناشطون”.
“استناداً إلى تعريف المجتمع المدني كقطاع ثالث بين القطاع الحكومي من جهة والخاص من جهة أخرى، برز دور هذا القطاع مع انحسار االآخرَين عن المجتمع خلال فترة الحرب، فالقطاع الحكومي منشغل بالحرب عسكرياً، والقطاع الخاص يقوم بدعم الاقتصاد، وبالتالي يوجد مساحة أكبر للقطاع المدني في سد حاجات المواطنين والمجتمع”. تقول روان، ناشطة مجتمعية، ومن مؤسسين منصة المجتمع المدني بسوريا.
مضيفة: “أصبح العمل المدني الخيار الوحيد المتوفر لحركة الشباب، وبعض الأشخاص ينظرون إليه كمنفعة مادية، والدليل على ذلك أن معظم الشباب العاملين هم متطوعون، وعند إيجاد أول فرصة عمل؛ يترك العمل المدني ويصبح من الذكريات”.
فيما يفسر وسيم السخلة، التفاعل الكبير للشباب المستمر بخلفيات عديدة أهمها: “حاجة الشباب السوري للارتباط ومايتوافر أحياناً من فرص مادية، كما أن الدافع الانساني وقلة الخيارات والحاجة المستمرة خلقت عواملاً لايمكن تجاوزها”.
بحسب التقرير الإحصائي السنوي لمنصة المجتمع المدني، للعام الماضي، في الربع الأول من 2017، فقد وصل عدد الكيانات المجتمعية العاملة في المجال المدني داخل سوريا وتحديداً، مناطق سيطرة الحكومة المركزية، إلى 548 كياناً، بينهم 129 يعمل في دمشق، موزعاً ما بين جمعيات، وفرق تطوعية ومبادرات واتحادات وروابط وشبكات بالإضافة إلى الأندية والمؤسسات.
نوار، صحافية سورية، تنظر بإيجابية للعمل المدني، وترى أنه كان بديلاً أكثر تأثيراً على المجتمع من الحراك السياسي، وهو يساهم بشكل أو بآخر، بنشر أفكار الشباب والتعبير عن أنفسهم بطرق مختلفة، وتحويل ما يؤمنون به لواقع”.
وتجد نوار أن “التوجه للعمل على اليافعين والأطفال في الفترة الحالية، وفي فترة ما بعد الحرب، لأنهم مستقبل سوريا، وهم من سيقومون بعملية البناء”.
خلال فترة العامين الماضيين لامستُ أنشطة وأعمال المجتمع المدني عن قرب، وقمت بتغطية العديد منها مؤخراً، لاحظت تفاوتاً كبيراً في أعمال الكيانات المختلفة، سواء من ناحية المهنية، أو الخبرة لكنها بالغالب كانت تسمح للشباب بالتعبير عن أنفسهم، آراءهم، أفكارهم، مشاريعهم، ومعتقداتهم، وبعضها يتيح المجال لجعل أفكار الشباب واقعاً، لم تكن تلك الفرص لتُعطى لهم وتصل لسوريا، ولولا المجتمع المدني الذي ظهر بعد بدء الحرب؛ لم نكن نحن كشباب نمتلك من يسمع صوتنا فيما مضى.
الحرب شئنا أم أبينا، دمرت نصف سوريا، لكنها من جانب آخر، تؤسس اليوم لقاعدة فكرية، ووعي عند الشباب، ومسؤولية لم نكن نملكها فيما مضى، ربما نحتاج لسنوات طويلة قبل أن يحدث التغيير الفعلي، لكنه قادم، في حال فُتح المجال للعمل المجتمعي والمدني بشكل أكبر.