بصريح العبارة؛ فكّرت كثيراً قبل كتابة هذا المقال نظراً لكثرة تأجيله على أمل “إنو يومين وأزمة البنزين بتخلص”، ترقب نحن عليه منذ أكثر من أسبوعين. ونظراً لتفاقم الوضع وازدياد كارثيته بدلاً من الفرج القريب، وبما أنّ الواقعة قد وقعت فهي إذاً واقعية، ونظراً لواقعيتها اتُّخذ -مع الأسف- قرار كتابة هذا المقال، متأخّراً، أو مبكّراً، مازلنا لا ندري!
يوماً بعد يوم تطول الكيلومترات التي ترسم مسار السيارات المتوجهة نحو محطّات البنزين في حلب، توحّدت الأعياد، الطبقات، والشتائم على دور البنزين، فمنهم الشبّان والنساء والمسنّون، وجمعيهم “نايمين قايمين” لأجل الليترات العشرين.
“عبّيت ما عبّيت ما شاورت حالي”
جاد، شاب عشريني، حفظ تعداد بلاط الرصيف على ناصية الشارع المكوّن لمسار خط البنزين، حيث قضى في إحدى المرّات ليلة كاملة على الدور، فوقف في آخر الخط حين بدأت عملية التعبئة في الساعة السابعة مساءً، واستمر انتظاره حتى الثامنة صباحاً، دون النوم أو العودة إلى المنزل، ولسخرية القدر أن هذا الانتظار الطويل لم يكّلل بالنجاح حيث لم يتمكن جاد من تعبئة البنزين! وحين سأله جدّه “عبّيت؟” يجيب: “لا”، سأله “لكن ليش رجعت؟!” فما كان له إلّا الانتظار على الدور في اليوم التالي أيضاً، حتى رأيناه رافعاً يديه وصارخاً: عبّيت! عبّييييت!
أمّا عن جانب الكوميديا السوداء، أحضرت إحدى الكازيات في حلب مطرباً إلى ساحتها وأحيت حفلة كاملة متصاحبة بحلقات الدبكة والغناء لتسلية المنتظرين والتخفيف عنهم
وعن جائزة الإبداع، فتعود بلا شك إلى أصحاب “بسطات الاكسبريس والبليلة والمكسّرات” الذين اختفوا عن أماكن وقوفهم الاعتيادية، وصاروا يتجهون يومياً إلى أماكن دور البنزين، واختلفت أدعية بائعي الورود من “الله يخليلك حبيبتك” إلى “الله يعطيك بنزين الله يساعدك تعبّي”.
على الجانب الآخر، يقول الشاب العشريني رامي، وهو طالب جامعي، أن تجربته في تعبئة البنزين كانت جيدة، فلم تطل أكثر من ساعتي انتظار، وكان الدور منظماً جيداً دون وجود تجاوزات أو مشادّات، وهو بحسب وصفه أمر مستغرب، فالجميع احترم الدور وحافظ على هدوئه رغم حالة الغضب واليأس.
مواقف عامّة غريبة صاحبت أزمة البنزين
موضوع الوقود لم يقتصر فقط على طابور الانتظار، بل تعدّاه إلى الحياة العامّة للمجتمع. فتقول سالي، طالبة جامعية، أنّها باتت تستمتع في المشي وسط الطريق المخصص للسيارات. وبهذا تحول الأمر إلى شكل رياضي، فأيضاً الشابة العشرينية راما التي باتت تمشي يومياً للوصول لوجهاتها، وفّرت الـ 7500 ليرة سورية كانت ستدفعها للاشتراك في النادي الرياضي لتحافظ على لياقتها مجاناً. أمّا إليسار، طالبة جامعية، فقد وجدت أنّ طابور البنزين يؤمن وظائفاً للشباب عن طريق خدمة “عبّيلي” حيث يمكن أن تعطي سيارتك لأحد عملاء الخدمة على الطابور لينتظر على الدور بدلاً منك. كما طوّرت ريم، خريجة أدب إنكليزي، برنامجاً يومياً استباقياً لتخطيط الرحلات التي قد تحتاج إلى سيارة، مع تحديد المستلزمات والأماكن بعناية، لا سيما بين قطبي المدينة “البلد والموكامبو” حيث أن مشاوير الترفيه باتت معدومة.
وتحوّلت العديد من المهن التي تعتمد على البنزين في توليد الطاقة إلى مبدأ المقايضة، ففي أحد صالونات التجميل النسائية بحلب، صار “سيشوار الشعر بنص ليتر بنزين”.
“من يتهيّب صعود الجبال على الأقدام، يرسب في الجامعة”
تقع جامعة حلب بمختلف كليّاتها في مناطق بعيدة نسبياً عن وسط المدينة، وكثيراً منها يتربع على مرتفع عالٍ لا يمكن الوصول إليه سيراً على الأقدام.
وفي ظل أزمة الوقود الحالية، انقطعت غالبية وسائل المواصلات من وإلى الجامعة، من سرافيس (ضغط كبير عليها) وتكاسي وباصات النقل العام. أذكر أنّه وفي أحد الأيام انتهى دوامنا في الساعة الثالثة والنصف عصراً، وحين مغادرتي الجامعة، رأيت غالبية زملائي ينتظرون السرفيس لأنه ما من سيارة واحدة على الطريق! انتظرنا لمدة نصف الساعة، حتى اتصلت صديقتي بوالدها وطلبت منه المجيء لأخذها، وانتهت مكالمتها بالبكاء لانعدام وجود وسيلة توصلها إلى منزلها! يومها عدت من جامعتي إلى بيتنا مشياً مسافة تتعدّى ٣ كيلومترات وتتجاوز ثلاثة أرباع الساعة.
المؤسف هو انعدام تقدير المعاناة الكبيرة التي يتحملها الطلاب لأجل الوصول للجامعة فقط، وهو أمر ليس على الطالب تحمله. تقول ريم وهي طالبة في جامعة حلب، أنه وبعد معاناةٍ كبيرة للوصول إلى الكلية لحضور مادة معينة من المقرر برفقة عدد قليل من الطلاب سأل دكتور المقرر -الذي حضر بسيارته الخاصّة- عن نسبة الحضور المتدنية، أتاه الجواب: “الطلاب على دور البنزين!” فرد ساخراً: “إي الموضوع مو خطير، يعني صح مو سهل بس لازم نكون تعودنا، هاد مو عذر!”
أمّا عن التكاسي النادرة البديلة عن السرافيس، ففي حال حالفك الحظ واستطعت أن تلتقط تاكسي لإيصالك من وإلى الجامعة؛ تتفاجأ بقيمة الرحلة التي تتعدى ٣ أضعاف حالتها الاعتيادية، أي أن متوسط تكلفة المواصلات التي قد يدفعها الطالب لبلوغ جامعته أو منزله تتجاوز ٧٠٠٠ ليرة أسبوعياً كتكلفة مواصلات فقط، وهذا ما لا يستطيع كثير من الطلاب تحمله.
هل من حل قد يساعد الطلاب في هذه الأزمة؟
انتشرت ظاهرة بين الطلاب ممن يملكون سيارة وبنزين”مؤقتاً” تعتمد على مساعدة الآخرين في إيصالهم لوجهتهم في ظل انقطاع وسائل المواصلات، حتى مع من لا يعرفونهم. لكن مواقف كهذه تعد قليلة كون الطلاب الذين يملكون سيارات أو بنزين؛ نسبتهم ضعيفة، وبالتالي الموضوع يحتاج إلى حل إسعافي على نطاق أوسع.
أحد الحلول المطروحة هي تخصيص عدد من باصات النقل العام لإيصال الطلاب فقط من وإلى جامعاتهم، عن طريق محطّات معيّنة في أوقات محدّدة، بكلفة ٥٠ أو ١٠٠ ليرة على سبيل المثال عبر إظهار البطاقة الجامعية، لا سيما أن باصات النقل العام تعتمد على مادة المازوت ولها مخصصاتها المتوفرة، وبهذا تقل كلفة مواصلات الطلاب من متوسط٧٠٠٠ ليرة تكلفة تكسي أسبوعياً إلى ٥٠٠ ليرة فقط، أي أقل بـ١٤ مرّة!
الجميع في حلب حالياً ينتظر الفرج، الذي يأتي كمخلّص على هيئة صهريج، “وينو فرج خيّو” لا أحد يدري ولا يمكن لأحد أن يتوقع، على أمل أن يكون المقال قد أتى متأخراً، ويصبح “بلا لزمة لأنو فرج وصل وانفرجت الأزمة”.