خلال السنوات الماضية، وفي كل عمل مجتمعي أو ثقافي، أشارك فيه أو أتورط بتصويره؛ أجد نفسي أمام تاء التأنيث ونون النسوة؛ لا كأشخاص عاديين وإنما كرؤساء جمعيات ومدراء فرق، مؤسِسَات لملتقيات ثقافية ومنسقات لمشاريع حتى أني عندما قررت أن أكتب في شباك سوري وجدت نفسي أمام مُحرِّرة امرأة، هذا ولم أحدثكم بعد أن عميد الكلية التي أعمل فيها هي أيضا امرأة.
لكن حديثي ليس عن النساء في المؤسسات والدوائر الرسمية ولذا كان يتحتم علي استبعاد الجملة الأخيرة التي تتعلق بعميد الكلية، إلا أني أبقيت عليها ليدرك معي القارئ وليبدأ بالتصور، كيف أني أنا الإمرأة المحاطة بمجمع متكامل من نساء هنَّ قائدات مجتمع. “يا للكعب العالي”، هذا ما يمكن أن نتخيله مبالغين بصورة الأنثى الأتكيت. لكن لِمَ المرأة الآن؟ سؤال دفعني لأتحدث مع ثلاث قائدات مجتمع في مدينة طرطوس لا لأسأل ذات السؤال، بل لأكون أقرب إلى الفكرة والخطوة التي بدأوا منها، لأعرف بداياتهنّ قبل نجاحاتهنّ.
“من ولا شي” تقولها بابتسامة يملؤها الحياء والسعادة في آن معاً
ملاذ الشيخ (35 عاماً) قادتها الظروف خلال عام 2008 للتخلي عن مقعدها في منحة دكتوراه لبريطانيا، وتبقى في دمشق كمدرسة علوم تجارية ثم تنتقل إلى طرطوس. العادات والتقاليد كانت أقوى منها فلم تسافر، لكن الظروف التي أحاطت البلاد؛ دفعتها للتفكير بشكل مختلف. بدءاً من إرادتها في فعل شيء وليس انتهاء في وضعها لهدف ينمو ويتشعّب كلما حققت جزءاً منه.
من متابعتها لنوادي القراءة في وسائل التواصل الاجتماعي بدأت ملاذ بتحفيز مَن حولها لتصبح فكرة النوادي واقعاً في طرطوس. فاستعانت بأصدقاء ومقربين، والتقَتْ شخصيات المدينة، وتعرفت على مقاهيها ساعية لإشعال فتيل المقاهي الثقافية في كامل المدينة. لتنضجَ الفكرة عام 2016 بتأسيس ملتقى “اقرأ معنا” الثقافي .
تقول ملاذ : “أصبحت أتساءل أحيانا بيني وبين نفسي أين كانت هذه الطاقة مخبأة سابقاً، ربما العديد من العادات والتقاليد كانت تقيدني بنمطية محددة لم أكن أجرؤ على تجاوزها، لكن ما لمسته من حاجة مجتمعية كبيرة دفعني أنا ومجموعة من الأصدقاء لفعل شيء ما”.
طاولة “اقرأ معنا” تتضمَّن ثلاثة أجيال تتحاور من سنِّ السادسة عشرة إلى سنّ الستين في مساحة من الحوارات والمناقشات حول الكتب والأفكار والأفلام السينمائية، بطريقة تُشجّع الشباب على عرض كل ما يجول في بالهم من آراء. ونشاطات امتدت ليصبح للملتقى مكتبات في مقاهي عدّة بطرطوس. حالياً يبقى السؤال الذي يلاحق مدرسة العلوم التجارية “ملاذ الشيخ” هو: “عليكِ بالترشح لمجلس المحافظة” لكنّ رَدّها الدائم أنها تشعر بفعالية أكبر وسط شريحة المجتمع الأكثر تأثيراً من شباب وشابّات.
“متل طابة التلج صارت تكبر الفكرة”
حاملة بجعبتها خبرات في العمل المجتمعي من بلد جنسيتها الثانية الأرجنتين، عادت ماريا عباس (41 عاماً) إلى سوريا عام 2007، مؤمنة بالعمل التطوعي. عملت وبشكل فردي على تأسيس مبادرات مختلفة لتنشر من خلالها هذه الثقافة، منها “كفالة طالب” والتي تقوم على فكرة ربط الطلاب غير القادرين على إكمال تعليمهم لأسباب مادية بأشخاص قادرين على دعمهم. تقول ماريا: “المكان الذي نعيش فيه يستحق أن نمنحه من وقتنا ساعتين على الأقل”.
بعد سنوات لم تعد هاتان الساعتان تكفيان لبلد اهتز بكامله وأصبحت مسؤوليته على عاتق كل فرد.
تقول ماريا: “لم يعد الأمر منح ساعتين من وقتك، ولمة شباب وصبايا وفكرة نريد تطبيقها، المسؤولية كبرت وبات من الضروري العمل بطريقة صحيحة”. من علاقاتها تواصلت ماريا مع العديد من الشبان والشابات مشكلين فريق عملوا على تمكينه من خلال ورشات العمل لنقل هذه الخبرات إلى أفراد المجتمع.
لتنطلق جمعية “فضا” للتنمية المجتمعية، والتي تأسست عام 2015، تعمل ومنذ ذلك الوقت على بناء قدرات المجتمع، قدَّمت خلال السنوات الفائتة مجموعة كبيرة من المبادرات، وتعاوناً كبيراً مع الجهات الرسمية بمختلف مستوياتها، إضافة إلى نشاطها مع جمعيات وفرق متنوّعة لم يكن آخرها “موسيقى على الطريق” الذي قدم أغاني العيد في شوارع طرطوس. تقول ماريا: “الأثر الذي نلمسه كافٍ ليجعلنا مستمرين ولو كان صغيراً، استثمار الزمن هو ما أؤمن به”.
“من مجرد صورة على روزنامة”
تقود غادة زغبور”٥٥ عاماً” خطاها بزيارة ودية لبيت أحد الأصدقاء، يلفت انتباهها روزنامة تحتوي على صورة أطفال يرسمون، كُتِب عليها “نادي الرسم المجاني في اللاذقية”. غادة الطبيبة والرسامة لن تترك هذه الصورة وشأنها، بل لحقت بها وبمؤسِّسها في اللاذقية ملتزمة بالعمل التطوعي معه لصيف كامل ذهاباً وإياباً من طرطوس إلى اللاذقية وبالعكس.
نجحت غادة في النهاية بنقل الفكرة بمساعدة صديقها الكاتب سعيد حسين، ليؤسسوا عام 2008 نادياً وفريقاً هو الأول من نوعه في المدينة باسم “نادي الرسم المجاني في طرطوس”.
تقول غادة: “استحالة تطبيق فكرة النادي، خلقت لديَّ تحدِّياً، ورغم ضيق الوقت باعتباري أمّ وألتزم بوظيفة وعيادة؛ إلا أنه لابد من تخصيص وقتٍ لفكرة هي مدهشة بذاتها، أن نرى طفلاً لا نعرفه يرسم بيننا وسط الشارع”.
أن تترك الطفل ليرسم ما يشاء باللون الذي يريده وبحرية مطلقة، ويتعلم القِيَم خلال اللعب فيقف على الدور باحترام، يستعير الألوان ويعيدها، يشارك في تنظيف الشارع مع المشرفين استعداداً لإقامة النشاط، كل ذلك يحدث في الشارع وعلى مرأى من الأهالي، فكسب النادي ثقتهم ليصبح الأب والأم متطوعين أيضاً يقدموا من وقتهم ساعات لأطفالهم وأطفال غيرهم.
لِمَ المرأة الآن؟ سؤال تصعب الإجابة عليه بمقال. ولكني سأكتفي بإدراج ما قالته غادة زغبور: “ما حدث في سوريا خلق عجزاً وانعدام توازن لدى الجميع، الإحساس بواجب فِعلِ شيءٍ ما، كرد على كل ما حدث، على الموت بكل أشكاله، عَمِل كلٌّ منا بطريقته. ازداد الإصرار عند الجميع على أننا موجودون وقادرون على صنع الجَمال رغم الحرب والموت… لكن التحدي أن تتابعي”.
أفخر بكن انا الانثى المرتبطة بكن روحيا وفكريا بكبر بجمال عبقكن
أمامكن……لانتقن إلا الصمت
مشكورين على جهودكم